الرئيسية » مراجعة كتب

دمشق ـ وكالات

عن شخصية الشاعر التركي الأشهر ناظم حكمت (١٩٠٢-١٩٦٣) الرومنطقية، إلى جانب حياته  الحافلة بالأحداث والإنجازات، هي التي تفسّر اختياره من قبل مواطنه نديم غورسيل بطلا لروايته الأخيرة "شيطان، ملاك وشيوعي"، التي تعد أقوى نص روائي كتبه غورسيل وصدرت ترجمتها الفرنسية حديثا بعنوان "الملاك الأحمر". تدور أحداث الرواية في إسطنبول وموسكو وخصوصا برلين، حيث يصل الراوي -كاتب تركي معروف لسيرة ناظم حكمت- للقاء شخص مجهول اتّصل به هاتفيا ووعده بوثائق في غاية الأهمية حول حياة الشاعر.وفي الفترة التي تفصل بين وصوله ولقائه بهذا الشخص، تتقاطر إلى ذهنه ذكرياته في هذه المدينة التي عاش فيها سنوات طويلة قبل سقوط جدارها المشؤوم، ذكريات تقوده بسرعة إلى محاكمة القرن العشرين الذي يعتبره زمن القتل والدمار والمجازر بامتياز، وإلى محاكمة برلين نفسها التي يشهد كل شارع من شوارعها على عنف هذا القرن. وفي هذا السياق، يستحضر جرائم النازيين في هذه المدينة، ثم تسلّط جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية آنذاك (ستازي) على أبنائها وانغلاق الأبواب في وجه مَن لم يكن ينتمي إلى الحزب الشيوعي فيها. يستنتج الراوي بسرعة بأن تلك السنوات لم تكن "سنوات الخبز والورود والحرية"، كما وصفها ناظم حكمت، وبأن الشيوعيين، بتشييدهم صرح الشيوعية الذي تطلّب عملا جبّارا وتضحيات كبيرة، شيّدوا جدران سجنهم الخاص، وبأن جدار برلين لم يكن بالتالي سورا وقاهم شرّ الفاشية والرأسمالية كما ادّعى زعماؤهم، بل حاجزا منعهم من بلوغ حرّيتهم. وبتأمّله في أسباب تعلّق ناظم حكمت غير المشروط بالشيوعية، يصل الراوي إلى خلاصة مفادها أن الشاعر كان رومنطيقيا إلى أبعد حد وأن تخلي والده عنه وعن أمّه وهو طفل، وإهمال هذه الأخيرة له، لعبا دورا في تحوّل رفاقه الشيوعيين إلى عائلته الوحيدة، وفي وفائه حتى النهاية للعقيدة الشيوعية التي اعتنقها منذ اكتشافه في موسكو عام ١٩٢١ ثورة أكتوبر البلشفية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الراوي -الذي يقف غورسيل خلفه- لا يسرد حياة الشاعر بتسلسلها التاريخي بقدر ما يسعى إلى الغوص داخل عالمه الخاص بطريقة تجعلنا نتآلف مع عواطفه وآلامه ونفهم رؤيته للكون. وفي هذا السياق تحضر أقواله وأبياته الشعرية التي توقّع النص.ويجب انتظار نهاية الجزء الأول من الرواية كي نتعرّف على الشخص المجهول الذي أتى الراوي إلى برلين للقائه، وهو شيوعي تركي كان يعيش في ألمانيا الشرقية ويعمل مخبرا في جهاز "ستازي" ويوقّع تقاريره تحت اسم "شيطان".وعلى رغم إعجابه الكبير بناظم حكمت واعتناقه الشيوعية وهو شاب على أثر قراءة قصائد هذا الأخير، فإنه لن يتوانى عن خيانته بعد قبوله مهمة مرافقته في جميع تنقلاته وأسفاره.وفي التقارير التي سيخطّها عنه -وتحتل الجزء الثاني من الرواية- لا يتناول "شيطان" فقط أفعال الشاعر ذات الطابع السياسي وطبيعة علاقاته بالنظام السوفياتي، بل أسفاره الخاصة وحياته الغرامية الغنية بالفصول وحتى قصائد الحب الغزيرة التي كتبها.وفي الوقت ذاته، تعكس هذه التقارير وجهة نظر كاتبها الذي تبقى ظروف حياته المأساوية مجهولة حتى الجزء الثالث والأخير من الرواية.ومن خلال هذه التقارير التي تعجّ بالمعلومات حول سلوك ناظم حكمت ومساره، يتبيّن لنا أن وفاءه للشيوعية لم يمنعه من انتقاد دكتاتورية البروليتاريا وبيروقراطية الحزب الشيوعي وقادته الذين فقدوا اتّصالهم بالشعب، وعلى رأسهم "ستالين" الذي فضّل الشاعر عليه "تروتسكي" منذ البداية، كما يتبيّن لنا أن قيادات الحزب الشيوعي في موسكو أو برلين أو تركيا لم تثق يوما به بسبب حرّية تفكيره ونزعته المثالية وأصوله البرجوازية، وهو ما يفسّر تجسّسها عليه طوال حياته.وتشدّنا هذه الرواية بأسلوب كتابتها الحديث ولكن أيضا بطريقة تشييدها الكلاسيكية على شكل الدمية الروسية ماتريوشكا (دمية تتضمن داخلها عدة دمى أخرى) إذ تستحضر تقارير "شيطان" المكتوبة بشكل شبه روائي مفهوم "الكتاب داخل كتاب" المستعار من الأدب الرومنطيقي.كما تسلّط الرواية في أجزائها الثلاثة الضوء على مسار شخصيتين -الراوي و"شيطان"- تظهران في حالة سعي ثابت خلف شخصيةٍ ثالثة (ناظم حكمت)، في حين تشكل الشيوعية محورا -أو شخصية رابعة- لدوران الشخصيات الثلاث الأولى حولها ومنْح كل واحدة منها رؤيتها الخاصة لها.اواللافت في معظم هذه الشخصيات هو ازدواجيتها الواضحة: ازدواجية الشيوعية التي تظهر بجانبيها الخيّر والشرير، ازدواجية المغنية "إيبك" التي أحبها الراوي أثناء إقامته الأولى في برلين وكانت تغني بالألمانية على ألحان تركية وتعامله بقسوة كبيرة على رغم حبّها له، وازدواجية "شيطان" الذي خان ناظم حكمت على رغم افتتانه العميق به.فقط الشاعر يبدو متوازنا مع نفسه ووفيا لقناعاته لعدم شكه في قيمه واقتناعه طوال حياته بأنه ينتمي إلى معسكر الصالحين.وإذ تحضر هنا جميع المواضيع الغالية على قلب غورسيل، كالنضال السياسي والحب والغربة، لكنها تبدو معالجة بطريقة جديدة يتزاوج فيها الواقع بالخيال بشكل حميمي لا نعود فيه قادرين على تمييز أي منهما، خصوصا متى استسلمنا لعنصر الإثارة الحاضر بقوة في هذا النص الذي يُقرأ أيضاً كرواية بوليسية.لكن قيمة الرواية تكمن خصوصا في تصادُم الأزمنة داخلها، وبالتالي في تشكيلها تأمّلا عميقا في التزامات وتنازلات أجيالٍ ثلاثة: جيل ناظم حكمت الذي مدح الشيوعية قبل أن ينتقد انحراف زعمائها عن أهدافها النبيلة، جيل "شيطان" الذي لم يتمكن من تعزية نفسه على أثر سقوط النظام البوليسي الذي انتمى إليه، وجيل الراوي الذي تجاوز بكآبة وألم بالغَين أوهام سنوات شبابه.

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

إصدار جديد يقارب حصيلة الدراسات الأمازيغية في المغرب
مؤلف يرصد البرلمان المغربي في ظل ثلاثة ملوك
رواية "وجوه يانوس" تقود أول امرأة إلى رئاسة الحكومة…
ديوان شعري أمازيغي يدعم مرضى السرطان الفقراء
أول عدد من "مجلة تكامل للدراسات" يرى النور

اخر الاخبار

وزير الخارجية السعودي يؤكد أن العدوان الإسرائيلي على غزة…
خامنئي يحث حزب الله اللبناني على الموافقة على مخطط…
الشعب المغربي يُخلد اليوم الذكرى التاسعة والستين لعيد الاستقلال…
فاطمة الزهراء المنصوري تضع اللمسات الأخيرة على مشروع إعداد…

فن وموسيقى

المغربية فاتي جمالي تخوض تجربة فنية جديدة أول خطوة…
حاتم عمور يُؤكد أن ألبومه الجديد "غي فنان" عبارة…
مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يُكرّم "الفتى الوسيم" أحمد عز…
هيفاء وهبي تعود إلى دراما رمضان بعد غياب 6 سنوات وتنتظر…

أخبار النجوم

شيرين عبد الوهاب تشعل حماس جمهورها في الكويت استعدادًا…
مروان خوري يحيي حفلا غنائيا في الكويت 12 ديسمبر
عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

رياضة

محمد صلاح يتصدر ترتيب أفضل خمسة لاعبين أفارقة في…
كريستيانو رونالدو يعتلي صدارة هدافي دوري الأمم الأوروبية
محمد صلاح على رأس قائمة جوائز جلوب سوكر 2024
الهلال⁩ السعودي يتجاوز مانشستر يونايتد في تصنيف أندية العالم

صحة وتغذية

وزير الصحة يُشير أن نصف المغاربة يعانون من اضطرابات…
نظام غذائي يُساعد في تحسين صحة الدماغ والوظائف الإدراكية
الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء…
هل تختلف ساعات نوم الأطفال عند تغيير التوقيت بين…

الأخبار الأكثر قراءة