الإرهاب الذي ما ينفك يضرب في عمق أوروبا ويوقع المزيد من الضحايا في مشهد مأساوي، يجب أن تتعامل معه الحكومات الأوروبية بمد جسور التنسيق والتعاون مع الضفة الأخرى، وليس بتغذية التفرقة العنصرية ورمي الاتهامات والسكوت عن التحريض الإعلامي، ذلك أن الإرهاب الذي يوحد بين عصاباته ينبغي له أن يوحد جهود مكافحيه ويشجع على تقارب الثقافات بين الشعوب بدل من تكريس العزلة.
أثارت الأعمال الإرهابية الأخيرة، التي حصلت في برشلونة الأسبانية، وفي مدينة توركو الفنلندية، سيلا من الأسئلة والتحليلات التي انصبّت بوجه خاص على هوية المنفذين. ولا شك أن تلك الأعمال الإرهابية لا يمكن أن يبرّرها أي دين أو ثقافة وطنية أو محلية، فهي عمل وحشي وجبان.
ولكن بقدر ما يقرب الإرهاب بين الإرهابيين في كل مكان، يتعيّن أن يقرّب المسافة بين سكان الثقافات المختلفة في كل مكان أيضا، لأن الرد الوحيد على الإرهاب المعولم اليوم، الذي يرمي إلى خلط الأوراق بين الثقافات والحضارات، هو المزيد من التقارب بين الثقافات والشعوب.
بيد أن نزعة الاتهام سرعان ما برزت على نطاق واسع فور وقوع التفجيرات ومعرفة أن المنفذين هم من أصول مغربية. وقد انحازت الصحف الإسبانية، المعروف عنها أنها غالبا ما تتحامل على المغرب بسبب الملفات التاريخية المعلقة والجوار الجغرافي الذي ينعكس على الاحتكاك السياسي، إلى أطروحة الاتهام بالتركيز على الأصول المغربية لمنفذ عملية الدهس في أكثر الساحات التي تشهد اكتظاظا بشريا في قلب مدينة برشلونة، ما خلف 15 قتيلا ونحو 100 جريح، وكذا العملية التي حصلت في بلدة كامبريس جنوب العاصمة الكاتالونية. وكان من المثير للاستياء وأيضا للسخرية أن بعض الصحف طرحت السؤال التالي: إذا كان المنفذون مغاربة فيجب معرفة ما إن كانوا قد اعتنقوا الفكر المتطرف في المغرب قبل هجرتهم أم في إسبانيا بعدما هاجروا إليها؟
كان واضحا من التركيز على هذا السؤال أن هناك توجّها نحو إدانة المغرب سلفا، مع العلم أن منفذ عملية الدهس، يونس أبويعقوب، هاجر إلى إسبانيا وهو ابن السادسة من العمر، بينما كان عمر شقيقه حسين، الذي قتل في بلدة كامبريس، أربع سنوات فقط حين غادر المغرب إلى إسبانيا مع والده. نفس الأمر بالنسبة إلى الشقيقين عمر ومحمد الهيشامي، فقد هاجرا إلى إسبانيا وهما في الثالثة والسادسة من العمر على التوالي.
لم تقتصر نزعة الإدانة المسبقة على الصحافة الإسبانية، بل إن الصحافة الفرنسية أيضا كان لبعضها نصيب من هذا الاتهام، إذ نشرت يومية “لوموند” مقالا للباحث الفرنسي من أصل إيراني فرهاد خوسروخافار، تحت عنوان مثير “المغرب يصدر إرهابييه”، زعم فيه أن المغرب ينتج الإرهابيين ويقوم بتصديرهم إلى أوروبا.
ونشرت اليومية البريطانية الغارديان هي الأخرى مقالا مليئا بالمبالغة، قالت فيه إن ما يزيد على ألف من المقاتلين المغاربة في صفوف تنظيم داعش يريدون العودة إلى بلدهم من أجل التسلل إلى أوروبا لتنفيذ عمليات إرهابية، وصوّرت هذه العودة وكأنها رحلة جماعية ذات طابع ديني مقدس، حيث استعملت عبارة “إكزودوس” التي تحيل على الهجرة الجماعية لبني إسرائيل في مهمة دينية.
من السهل المسارعة إلى الاتهام وإلقاء اللائمة على الآخرين، فهذه مهمّة يسيرة لا تتطلب جهدا في التحليل والتشخيص أو إرهاقا للعقل، والاتهام يحسنه كل فرد مهما كان قمة في الكسل الفكري، كما أن الاتهام يسمح في ذات الوقت بإبعاد التحليل عن المنطقة الساخنة للظاهرة، بصرف الأنظار إلى ناحية أخرى من أجل حجب الحقائق.
إن المغاربة الذين نفذوا العمليات الإرهابية الأخيرة في إقليم كاتالونيا هم مواطنون إسبان، حاصلون على جنسيتها، ما عدا إمام أحد مساجد برشلونة الذي قتل في عملية تفجير داخل مسكنه، وقد هاجروا إلى إسبانيا في وقت مبكر من حياتهم كما سبق القول، وهو ما ذكرته الصحف الإسبانية نفسها، فهل يعقل أن يعتنق شخص في الثالثة أو السادسة من العمر الفكر التفكيري؟ إن هؤلاء هم نتاج الوسط الاجتماعي والثقافي في إسبانيا، وهم ضحايا عمليات الاستقطاب التي تقوم بها التنظيمات الجهادية في هذا البلد وغيره من بلدان أوروبا.
ولكن حالة الإمام عبدالباقي السطي، الذي قتل في عملية التفجير، تستحق وقفة. لقد كان هذا الشخص إماما لأحد المساجد الصغيرة في مدينة برشلونة منذ سنوات طويلة، وهو غير تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية ولم يتم تعيينه من طرفها، وهذا معناه أنه كان يتحرك تحت أعين السلطات الإسبانية، بل إن المسجد الذي كان يعمل فيه حاصل على الترخيص من السلطات الإسبانية المحلية. وطيلة أربع سنوات كان يجري لقاءات سرّية في بيته مع عدد من المتطرفين الذين استقطبهم، ومنهم منفذو العمليات الأخيرة. فكيف تمكن من فرض نفسه كإمام ومن عقد لقاءات سرية في بيته بعيدا عن أعين الحكومة الإسبانية؟
إن مسؤولية السلطات الإسبانية في ما حصل في برشلونة، وقبلها في مدريد عام 2004، مسؤولية ثابتة.
فالحكومة الإسبانية ترفض التنسيق مع المغرب في ما يتعلق بالجانب الديني، وتريد حصر التعاون معه في الجانب الأمني وفي تبادل المعلومات. والسبب أنها تتخوف مما تسمّيه هيمنة المغرب على الأئمة وعلى المسلمين المغاربة المقيمين على التراب الإسباني. والمثال الواضح على ذلك هو سبتة ومليلية المحتلتان. فبالرغم من أن مدريد تشكو باستمرار من الخطر الذي تشكله المدينتان على أمنها، ورغم تفكيك بعض الخلايا المتطرفة في المدينتين واعتقال العشرات من المتطرفين، فإنها لا تريد أن يتدخل المغرب في الشأن الديني في المدينتين خشية أن يتحول ذلك إلى رصيد سياسي لديه يحوّله غدا إلى رافد للمطالبة باستعادة المدينتين.
أكثر من ذلك فإن السلطات الإسبانية تسعى بكل قوة إلى إبعاد المغرب من الملف الديني بها. ففي عام 2011، على سبيل المثال، نشرت يومية “إيل باييس” واسعة الانتشار والمقربة من الحكومة، تقريرا مهما يقول إن الحكومة الإسبانية تريد سحب الملف الديني من قبضة المغرب، من خلال إزاحته عن الإشراف على بعض المنظمات التي تهتم بتمثيل المغاربة المسلمين أمام السلطات الإسبانية، وبعد عام واحد تحقق ما كتبته الجريدة، فقد تم تدبير انقلاب داخل “الفيدرالية الإسبانية للهيئات الدينية الإسلامية” المعروفة باسم “الفيري” والمجيء بشخص من جماعة العدل والإحسان المعارضة، وهذا هو أيضا ما كتبته الصحف الإسبانية نفسها وقتها.
يرتبط القضاء على الإرهاب في أوروبا بإقامة شراكة متينة ومتوازنة مع بلدان جنوب المتوسط، ومنها المغرب، من أجل وضع استراتيجية متكاملة لمحاربة ظاهرة التطرف في الضفتين بشكل عام، خاصة في ما يتعلق بموضوع الهجرة، فالهجرة اليوم هي ملتقى الأجناس في أوروبا، وهذا يعني أنها في الوقت نفسه أيضا ملتقى المسؤوليات.