الدولة أدركت أن استمرار اعتقال المئات من المتطرفين في السجون، وترك أبواب هذه الأخيرة مفتوحة لاستقبال سجناء جدد، لن يفيد في القضاء على الإرهاب.
ظل ملف المعتقلين السلفيين المتطرفين في السجون المغربية هاجسا يؤرق الدولة المغربية طيلة أكثر من عقد من الزمن، واحتاج الأمر إلى بذل جهود حثيثة لإبقاء هذه القضية فوق طاولة النقاش العمومي بحثا عن مخرج يضمن به المغرب سمعته الدولية كبلد يعزز صرح حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت الحفاظ على الاستقرار الداخلي دون السماح بالانزلاق إلى العنف، أو إعطاء المتطرفين فرصة استثمار الهامش المتوسع للحريات من أجل إشاعة الفكر المتشدد.
كان واضحا، عقب تفجيرات الدار البيضاء عام 2003 التي هزت هيبة الدولة، أن المغرب لن يتهاون مع الإرهاب والتطرف مهما كان الثمن، بيد أنه نهج في الوقت نفسه نهجا عقلانيا تجاه هذه الظاهرة التي برزت بشكل أكبر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وباتت تشكل تهديدا حقيقيا لمختلف بلدان العالم العربي والإسلامي.
فإلى جانب القبضة الأمنية القوية التي تبناها المغرب لملاحقة المتطرفين، وتفكيك الشبكات الإرهابية، واعتماد الضربات الاستباقية التي مكنت من الحيلولة دون تكرار ما حصل ليلة الثلاثاء 16 مايو 2003 بالدار البيضاء، اتخذت الدولة إجراءات عملية على الأرض في القطاع المؤسساتي المشرف على الشأن الديني في البلاد، حيث وضعت مشروعا متكاملا لإعـادة هيكلة الحقل الديني، همت وزارة الأوقاف والمجالس العلمية، وطالت المساجد والأئمة والمرشدين والكتب المدرسية، وذلك بهدف إقامة أرضية جديدة تضمن تجفيف منابع التطرف بشكل تدريجي، وتبسط بالتالي قبضة الدولة على القطاع الديني الذي كان معرضا قبل ذلك لعدد من المؤثرات ولحالة من الفوضى والعشوائية، خصوصا في ما يتعلق بإنشاء المساجد والإشراف عليها وتمويلها.
لقد أدركت الدولة أن استمرار اعتقال المئات من المتطرفين في السجون، وترك أبواب هذه الأخيرة مفتوحة لاستقبال سجناء جدد، لن يفيد في القضاء على الإرهاب، ذلك أنه عاجلا أم آجلا سيخرج هؤلاء إلى النور وهم أكثر حقدا على الدولة والمجتمع، وربما كان ذلك بداية مجددة لموجة من العنف الخطر. فالهدف النهائي للاعتقال هو دفع المعتقل إلى التراجع والتوبة، وإعادة إدماجه من جديد في المجتمع، وبهذا يكون السجن فضاء لإعادة النظر في المواقف والقناعات لا مؤسسة للعقاب المجاني.
هذا الإدراك المبكر لأهمية التراجع عن فكر التطرف لدى الدولة دفعها إلى وضع استراتيجية متدرجة للتعامل مع ملف المعتقلين السلفيين، وذلك من خلال تفعيل آلية العفو الملكي.
وتعد هذه الآلية ذات أهمية بالنسبة إلى قطاع العدالة في المغرب، فهي تعني أن الملك شخصيا يتدخل من أجل رد الاعتبار إلى السجناء وإعطائهم فرصة لإظهار حسن النوايا، والإفراج عنهم قبل أن يكملوا المدة التي حوكموا بها.
وطيلة العقد الماضي استفاد عدد كبير من المعتقلين السلفيين من الحرية في إطار إجراءات العفو الملكي، وخلال هذا الأسبوع استفاد 13 من السلفيين المتشددين، ينتمي بعضهم إلى أبرز الجماعات المتشددة التي ظهرت في بداية الألفية الجديدة بالمغرب، وهي المسماة بجماعة يوسف فكري.
أخذت الدولة على عاتقها مهمة طي ملف السلفية الجهادية في السجون ولكن بشكل تدريجي ووفق معايير محددة. أبرز هذه المعايير ملاحظة استعداد المعتقل لتغيير أفكاره المتطرفة والتراجع عن مواقفه السابقة تجاه الدولة والمؤسسات، والخضوع لدورات تدريبية تشرف عليها مديرية السجون وإعادة الإدماج بمشاركة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
إذ يقوم المعتقل الراغب في الاستفادة من تلك الدورات بمراسلة إدارة السجن الذي يوجد فيه، يعلن فيها رغبته في تغيير قناعاته وترحيبه بنهج المصالحة الذي ترعاه الدولة، وتقوم الإدارة بتحويل مراسلات المعتقلين إلى الجهات المعنية، التي تبادر بالتواصل مع المعتقل، لتبدأ بعد ذلك جولة جديدة من الحوار، تقود في النهاية إلى وضع المعتقلين المعنيين ضمن قائمة الأشخاص الإيجابيين.
ويعتمد هذا الأسلوب سياسة الخطوة خطوة بهدف منح المعتقلين المفرج عنهم فرصة إبداء حسن نواياهم بعد الإفراج، ووضعهم على محك الاختبار والتجربة، قبل الشروع في مرحلة تالية، وهو ما يفسر تباعد المراحل الزمنية التي يصدر فيها العفو الملكي، وفي نفس الوقت تكون تلك المبادرة رسالة إلى باقي المعتقلين من أجل إبداء استعدادهم للتغيير. إنها رحلة طويلة من دون شك، ولكن لها نتائج إيجابية لأن للإرهاب كلفة باهظة.