إدريس الكنبوري
رمت مؤسسة الأزهر في الأسبوع الماضي حجرة كبيرة في بركة راكدة، وذلك بإصدارها بيانا ترفض فيه تكفير ما يسمى «الدولة الإسلامية في سوريا والعراق» وحركة «داعش»، وذلك بمبرر أنه لو قام الأزهر بتكفير تلك الجماعة فإنه سيسقط في فتنة التكفير، ويرد على تكفير بآخر، وهو ما لا يتماشى مع المنهج الوسطي الذي يسير عليه، حسب البيان.
هذا التصريح أوقع الكثيرين في الحرج، ودفعهم إلى طرح تساؤلات حول ما إن كان الأزهر يتهرب من مواجهة الوقائع، وما إن كان عدم تكفيره لحركة «داعش» سيزيد في إجرامها، ويعتبر بمثابة «تبرئة» لساحتها من عمليات القتل والذبح وسفك الدماء.
موقف الأزهر في هذا التوقيت يضع حدودا عقدية بين مدرستين كثيرا ما تبادلتا الضربات تحت الحزام، وهما الأشعرية والحنبلية؛ فالمعروف أن أتباع المدرستين كثيرا ما واجهوا بعضهم البعض عبر التاريخ الإسلامي، بل وصلت المواجهة حد الاقتتال بحد السيف وتبادل النعوت القدحية والهجومات اللفظية، وذلك في إطار الخصومات بين الفرق الكلامية، أو الاعتقادية بالأصح. وقد أحيى الحنابلة الجدد، في القرن التاسع عشر مع ظهور الوهابية في شبه الجزيرة العربية، هذه النقاشات الكلامية بين المدرستين، ومعها تم تجديد الخلافات القديمة. ويميل السلفيون الحنابلة إلى الحديث عن أشعريين وليس عن أشعري واحد، فيتبنون الأول وينتقدون الثاني، بل منهم من يبالغ إلى درجة تكفيره. أما لماذا؟ فلأن أبا الحسن الأشعري كان معتزليا في بداياته، والمعتزلة فرقة ضالة عند السلفيين، ثم رجع عن الاعتزال وأعلن دخوله في زمرة «أهل السنة والجماعة»، وألف كتبا، من بينها كتابان ضمنهما أفكاره واعتقاداته، هما «اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع» و»الإبانة عن أصول الديانة»، فتأسست حوله مدرسة مخالفة للاعتزال. لكن السلفيين يرفضون نسبة الكتاب الثاني إلى الأشعري، ويقولون إنه منحول ومنسوب إليه على غير تحقيق؛ وفي أدنى الحالات، منهم من يقر بهذه النسبة لكنه يرى أنه كتب في مرحلة التأثر بالمعتزلة، لأن الأشعري يحاول فيه التوفيق بين العقل والنص، بينما يعتمدون كتاب «الإبانة» لأن الأشعري يعترف فيه بمنهج أحمد بن حنبل وينتصر لأهل الحديث الذين يرفضون العقل، وكتب في مرحلة متأخرة ما يعني أن صاحبه نضج وزال عنه تأثره بالمعتزلة. ولكن الذين درسوا الأشعري، ومنهم الدكتور محمد الأمين السماعيلي الذي أخرج كتاب «اللمع» قبل عامين، يرون أن هذا الأخير أكثر عمقا من الكتاب الأول وأكثر تعبيرا عن المنهج الأشعري.
من هنا يظهر أن الأزهر أراد، من خلال ذلك الموقف، التأكيد على المنهج الأشعري في العقيدة، المخالف لمنهج السلفيين الحنابلة الذين ارتبطت بهم فتنة التكفير في العصر الحديث، علما بأن الأشاعرة لا يميزون بين الكتابين المذكورين، بل يرون أن لكل واحد منطقه وأنهما يمثلان مرحلتين في فكر الأشعري، وما ورد في كتاب «الإبانة» عن ابن حنبل لا يعني تبعية الأشعري له وعدم استقلاليته بمنهجه. وإذا لاحظنا أن مفتي المملكة العربية السعودية، مهد الوهابية، تناغم مع موقف الأزهر ولم يكفر حركة «داعش»، واكتفى بوصفها بالضلال وبكونها «شرا وبلاء»، نكون أمام تحول جنيني داخل الوهابية تجاه ظاهرة التكفير، التي أصبحت وباء يحصد الأخضر واليابس باسم الدين.
بيد أن المشكلة تتجاوز مجرد اختلاف بين مدرستين اليوم، فالتكفير أصبح ثقافة خطيرة منتشرة بسبب توالي عقود من الزمن على تداولها، حتى داخل التيار الإسلامي الحركي، لأن عمق هذا التيار يظل سلفيا متأثرا بالسلفية الوهابية بشكل واضح، وذلك لأن التيار الإخواني في العالم العربي أشعري من حيث المنهج، سلفي من حيث العقيدة؛ ويكفي إلقاء نظرة على كتاب «فقه السنة» فحسب للسيد سابق لكي يتم تلمس هذا العمق السلفي، بالرغم من أن محمد ناصر الدين الألباني ألف كتابا في الرد عليه، والأول أشعري بينما الثاني سلفي حنبلي.
إن القضية الرئيسية في هذا الصراع كله هي قضية عقدية بامتياز، تمتد بجذورها إلى قرون مضت وتم إحياؤها في العصر الحديث، ثم تطورت مع الزمن الحالي بعد ظهور هذه الجماعات الدينية المتكاثرة، والتي أعادت استهلاك الخلافات القديمة في ثوب جديد، وكأنها فرق اعتقادية، أو كلامية، جديدة، سوى أنها لا تمارس الكلام. ويرجع العطب إلى أن التجديد لم يمس الجوانب العقدية من أجل تطهيرها من النتوءات التي كان لها زمنها. وقد يكون التصحيح اليوم مرتبطا بإجراء عملية تقريب بين الأشعرية والحنبلية، وهي عملية صعبة بسبب تراكم الخلافات ووجود أطنان من الكتب السلفية التي تهاجم الأشعرية، وتشبه عملية جراحية لزرع قلب جديد، لكنها ليست مستحيلة لو توفرت الإرادة من الجانبين. وفي ظل التحولات الكبرى اليوم، ربما بدأت تظهر أهمية المنهج الأشعري في نشر ثقافة الاعتدال ورفض التكفير، وقد يكون الإقبال على التجربة المغربية في الإصلاح الديني، إذا لاحظنا تزايد البلدان التي تسعى إلى نقل التجربة، راجعا بدرجة أساسية إلى المنهج الأشعري.
"المساء"