ادريس الكنبوري
في الثلاثينيات من القرن الماضي ألف شكيب أرسلان كتابه الشهير"لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟"، انتقد فيه الأوضاع في الشرق وهاجم الذين وصفهم بالجامدين من المسلمين، الذين اعتبرهم علة التخلف، وتطرق إلى الانحراف في الدين وغياب الأخلاق بوجه خاص، وسيادة الخيانة بين العلماء والأمراء. والغريب أن الكتاب جاء بمثابة رد على سؤال لأحد القراء وجهه إلى جريدة"المنار" لرشيد رضا، التي كان يكتب فيها أرسلان مقالاته الفكرية والسياسية، وفي السؤال:"ما الأسباب التي ارتقى بها الأوروبيون والأمريكانيون واليابانيون ارتقاء هائلا؟وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا تبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم أم لا؟".
سؤال أرسلان هو ما سبق أن انكب عليه رواد النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر، من أجل أن يخلقوا"تنويرا"إسلاميا جديدا يحدث ثورة في الفكر الإسلامي آنذاك، لذلك ركزوا في مشروعهم على أهمية التربية والتعليم، كجسر ضروري أو "مرحلة انتقالية" من التخلف إلى النهضة. وبعد أزيد من مائة عام، تبين فعلا أن التعليم هو العقبة الرئيسية، بدليل أن هذا الجسر هدم مرات عدة في جميع البلدان العربية وبنيت مكانه جسور جديدة هدمت، تحت شعار إصلاح التعليم، وما زال هذا الجسر يهدم ويبنى في كل مرة، إلى الآن.
نفس السؤال يعيده باحث فرنسي لكن بطريقة مختلفة، إذ لا يجيب عن سؤال:"لماذا تأخر المسلمون؟"، لكنه يسعى إلى الإجابة عن سؤال:"لماذا تقدم غيرهم؟". عنوان الكتاب هو"المسيح فيلسوفا" للباحث الفرنسي فريديريك لونوار. يطرح لونوار هذا التساؤل لكي يجيب عليه:"لماذا نشأت الديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب ولم تنشأ لا في الهند أو الصين ولا في الإمبراطورية العثمانية؟"، ثم يجيب قائلا: لأن الغرب كان مسيحيا ولأن المسيحية لم تكن مجرد دين، بل هي فلسفة.
الأطروحة الرئيسية في الكتاب كله هي ما يلي: حصل التقدم والنهضة في أوروبا المسيحية لأن فلاسفة عصر الأنوار تخطوا رجال الدين وسلطاتهم الروحية وعادوا إلى النصوص الأصلية للكتب المقدسة لإعادة قراءتها قراءة جديدة. وبالنسبة للونوار، وهو كاثوليكي متخصص في الشؤون الدينية، فإن القيم الرئيسية والإنسانية في المسيحية قد تم السطو عليها من لدن الكنيسة، لكن أصحاب النزعة الإنسانوية هم الذين أعادوا إليها الاعتبار من خلال التأويل الجديد.
يمكن توسيع هذه الأطروحة لكي تشمل العالم الإسلامي بالتذكير بتلك الثنائيات الشهيرة، التراث والحداثة، الفقه التقليدي والفقه الحديث، الجمود والاجتهاد. هذه الثنائية الأخيرة التي سيطرت خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في عالم الإسلام الحديث انتهت بغلبة الجمود على الاجتهاد؛ فقد لوحظ كيف أن رواد الإصلاح الأوائل تعرضوا لشتى أنواع الهجوم من لدن ممثلي المؤسسة الدينية في ذلك الوقت، بسبب جرأتهم على مساءلة النص الديني وخوض مغامرة التجديد، وتم نعتهم بمختلف النعوت القدحية لأنهم غامروا بالعودة إلى النصوص الدينية في مظانها، دون وسيط من تراث عتيق ظل مسيطرا طيلة قرون، بل بالاستناد إلى أمرين أساسين: التراث المتنور الذي تم التخلي عنه بسبب هيمنة قوى المحافظة، والعقل بما هو آلة، بتعبير ابن رشد. بل إن مصير جل هؤلاء الإصلاحيين كان هو الاغتيال، كما هو الحال مع جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي، بينما واجه محمد عبده الكثير من أصناف الملاحقة والتضييق وحورب عندما تولى مسؤولية الأزهر.
أخطر ما في كتاب لونوار ويستوجب التفكير فيه طويلا، أن العالم اليوم يعيش القيم الحديثة بفضل المسيحية عليه. فهو يقول إنه لولا المسيحية، التي هي فلسفة، لما عرف العالم اليوم قيما مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد والمساواة والإخاء والنزعة الإنسانية المشتركة، وهي ذاتها القيم التي أوحت إلى أوروبا بإنشاء المنظمات الدولية مثل عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة، مرورا بمنظمات رعاية الطفولة والمرأة، وانتهاء بهيئات حفظ السلام وسواها؛ ثم يؤكد بأن الكنيسة هي التي جعلت كلمة المسيح حية إلى اليوم "حتى أصبحت منتشرة في جميع اللغات".
عصر الأنوار الأوروبي قلب المعادلة، فبينما كان المسلمون ينادون بأن الإسلام دعوة عالمية أصبحت القيم المسيحية هي القيم العالمية المنتشرة؛ لأن المسلمين انشغلوا بقضايا جانبية بسبب التعدد المذهبي الذي كان ثروة ثم أصبح نقمة بالنظر إلى عوامل التجاذب السياسي؛ وهكذا تمكن الغرب المسيحي من صياغة مفاهيم إنسانية متحضرة صارت مكسبا اليوم، من دون أن ينجح المسلمون في صياغة مفهوم واحد يروجونه، ما عدا ـ ربما ـ مفهوم"الجهاد"، الذي نجده اليوم في جميع اللغات بنفس الجذور اللغوية العربية، بحيث لم يعد أحد في حاجة إلى ترجمته إلى اللغة التي يتكلمها، طالما أن المفهوم صار من الرواج بما لا يختلف على معناه إثنان.