بقلم ـ توفيق بو عشرين
يحكي آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، في مذكراته واقعة تستحق أن تروى وتدرس يقول: (إن انهيار الشيوعية لم يبدأ بسقوط جدار برلين سنة 1991، بل بانهيار المفاعل النووي في تشرنوبيل قبل ذلك بخمس سنوات (1986). إن الكارثة التي نتجت عن تشقق مفاعل تشرنوبيل فتحت الباب للتعبير عن الحقائق، وأصبحت حقيقة تجر إلى أخرى، مثل انهيار جليدي هائل.
لقد تبين أن النظام القادر على بناء مفاعل نووي ضخم، غير قادر على سد ثغرة صغيرة داخله، كانت تهدد كييڤ عاصمة أوكرانيا. إن السويد البلد الصغير في شمال أوروبا هي التي أخبرت موسكو بالإشعاع النووي، الذي وصل إلى أراضيها قبل يوم ونصف من إدراك السوفيات لحقيقة ما جرى. ولما بدأ الخبراء السوفيات في مكافحة التسرب أخطؤوا عندما رشوا المصانع بالمياه لتبريدها، فكان أن تلوثت مياه الأنهار وامتدت الآثار المدمرة إلى بلدان بعيدة مثل تركيا، حيث تسممت الأراضي والمواشي. المكتب السياسي للحزب الشيوعي لم يكن يدرك حقيقة الأمر، والصحف السوفياتية لم تنشر الخبر، لأن الصحافة كانت مراقبة… الكارثة فتحت المجال لحرية التعبير، والتفكير في هذا النظام الذي يرعب الغرب، وهو غير قادر على سد ثغرة صغيرة في بيته النووي).
بقية القصة معروفة، حيث لم ينفع مشروع (البريسترويكا) في إصلاح ما أفسدته عقود من البيروقراطية والاستبداد وجمود نظام لم يتكيف مع أحوال العصر، حتى تشمع وتيبس وأصبح الاقتراب منه لتعديله أو تقويمه أو إصلاحه شبه مستحيل، فانتهى إلى الانهيار…. أخطر شيء يمكن أن يقع في أي دولة أو نظام أو سلطة هو الجمود، وعدم القابلية للإصلاح، وعدم القدرة على التكيف، وإخراس أفواه الصحافة وجعل مصالح الأشخاص فوق مصالح الدولة، وجعل الحاضر ماضيا والمستقبل حاضرا…
(الحقيقة عابرة سبيل ولا أحد يستطيع اعتراض سبيلها)، كما يقول إيميل زولا، ومهما غطت الدول والأنظمة والحكومات على الحقائق في بلدانها، فلا بد أن يأتي يوم تظهر فيه إلى العلن، وتخرج إلى الشارع، سافرة الوجه، عارية الجسم تلقي بما في بطنها في وجه الجميع، أحب من أحب وكره من كره…
في الأنظمة الديمقراطية الدولة الحديثة مثل الثعبان تغير جلدها كل أربع أو خمس سنوات، فتتخلص من ضعفها وتواجه حقائقها وتنحني أمام غضب الناس من حكوماتها، عن طريق صندوق الاقتراع، الذي يفتح المجال للتناوب الحقيقي على السلطة، بين الأحزاب السياسية، حيث يتقاعد من يحكم، ويصعد من يعارض في تناوب سلس على إدارة السلطة والمال والجاه، دون المساس بالدولة ومؤسساتها ودستورها وأعرافها واستقرارها… الدول الديمقراطية لا تحتاج إلى ثورات، ولا إلى انقلابات، ولا إلى عواصف تأتي على الأخضر واليابس. كل أربع سنوات يذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع، وهناك يعاقب النخبة الحاكمة والسياسة القائمة والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية التي لا ترضيه، أو بالعكس يزكيها ويطيل عمرها إن كان راضيا عنها إلى إشعار آخر…
بهذا المعنى، الدولة الحديثة دولة غير خلدونية، لا تمر بأطوار الولادة والصعود والنزول، فلا عصبية قبلية أو دينية داخلها تقوى وتضعف مع الأيام، الدولة الحديثة تغير السياسة لا النظام، وتغير الأشخاص لا المؤسسات، وتغير الأثاث لا المنزل، والذي لا يستطيع صندوق الاقتراع تغييره، تقوم وسائل الإعلام والمجتمع المدني ومؤسسات الحكامة والقضاء المستقل به، في إطار توازن السلط، بفتح النظام السياسي على مدخلات جديدة لإنتاج مخرجات جديدة، تعبر عن حركية المجتمع، وثقافته ومصالحه وتطوره وغضبه وآماله… هذا النموذج الذي نراه اليوم في جمهوريات وملكيات في أوروبا وفي أمريكا وبعض دول آسيا.
نموذج لم يولد من عدم، ولا نزل من السماء، سبقته حروب وصراعات وانقلابات ومجاعات وضحايا وثورات علمية وسياسية وفكرية وفلسفية، حتى استقر على النحو الذي نراه اليوم، كثمرات للحداثة السياسية، وللدولة الحديثة التي تبنى على قوة الشرعية، وليس على شرعية القوة وخدمة الدولة للمواطن، وليس خدمة المواطن للدولة… إنه نظام غير مثالي وفيه عيوب كثيرة لكنه الأفضل بين كل الأنظمة السيئة الأخرى وأولها الاستبداد.
كما أننا لن نخترع العجلة من جديد اليوم، لأنه سبق اختراعها. لا يجب ولا يحق ولا يجوز لأحد أن يخترع نظاما سياسيا وإدارة حكم غير الموجود على طاولة الكسب الإنساني والحضاري. نعم، يمكن تطوير أنظمة الحكم الحديثة في العالم العربي والإسلامي، وهي على كل حال متنوعة ومختلفة ومرنة، لكن لا يمكن أن تبقى هذه القطعة الجغرافية من العالم خارج تاريخ الدولة الحديثة وخارج الدينامية الديمقراطية التي تخترق العالم، وإلا ستعجز عن سد الثغرات الصغيرة في بيتها، كما حصل مع الاتحاد السوفياتي…