بقلم - توفيق بو عشرين
المغرب، على ما يبدو، فقد حكماءه.. هذا ليس حكم معارض أو صحافي أو حقوقي أو مراقب.. هذا رأي مستشار ملكي اسمه عباس الجيراري، يجر خلفه تجربة واسعة في العلم والأدب والسياسة، وحتى وإن كان مستشارا لا يستشار الآن، فإن رأيه يجب أن يُسمع ويناقش ويحظى بما يستحقه من عناية.
في حوار نشر يوم أمس بجريدة «الصباح»، قال الجيراري، تعليقا على أزمة حراك الريف الذي بدأ اجتماعيا وتحول إلى سياسي، وبدأ محليا وصار وطنيا، بل دوليا، جوابا عن سؤال الصحافي: «هل يمكن أن نتحدث عن أخطاء للدولة في إدارة أزمة الريف؟»، قال مؤرخ الملحون عباس الجيراري: «من المؤكد أن هناك أخطاء، فأنا أتساءل: أين هي الحكومة من كل هذا؟ وأين هي الأحزاب والمؤسسات التي تصرف عليها الملايير؟ الجميع يتفرج على ما يجري، أو يذكون نيران الفتنة أكثر مما هي متقدة. لقد وصلنا إلى طريق يكاد يكون مسدودا بعدما فشلت المؤسسات المنوط بها حل المشكل… الكل ينتظر تدخل جلالة الملك، وهذا ليس هو الحل. لا يعقل أن تتخلى الحكومة والمؤسسات عن مسؤولياتها ليتم الزج بجلالة الملك في قضايا مثل هذه. ليس سهلا أن يغامر جلالته في ملف شائك مثل هذا لا يمكن توقع ردود الأفعال فيه. إن تصرف الأحزاب والحكومة والمؤسسات بإسناد كل شيء إلى جلالة الملك، بحق أو باطل، يضعه في موقف حرج».
كلام صاحب «عبقرية اليوسي» سليم شكلا لكنه غير ممكن واقعا. كيف ذلك؟
من حيث المنطق الديمقراطي والشكل الدستوري، فإن الحكومة والبرلمان والقضاء ومؤسسات الحكامة سلط مستقلة عن بعضها البعض، ويجب أن تشتغل وفق توزيع الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور والقانون وأعراف الممارسة الديمقراطية، لكن الحكم لا يدبر فقط بالنصوص المكتوبة أسود فوق أبيض. السلطة تخضع كذلك لموازين القوى، فبالرجوع إلى الممارسة الواقعية نجد أن الدستور المعمول به حقيقة في المغرب اليوم هو دستور 1996، وأن دستور 2011 يظهر ويختفي مثل ثعلب زفزاف الشهير.
واقع الحال وثقافة الفاعلين وميزان القوى، وتقاليد المخزن لدى كل الأطراف، وهشاشة الحكومة واختراق الأغلبية… تجعل من الحكومة ورئيسها واجهة للقرار، خاصة عندما نكون إزاء قرارات استراتيجية تهم الملفات الحساسة التي تستحوذ عليها وزارة الداخلية، وتتلقى فيها التعليمات مباشرة دون المرور من مكتب رئيس الحكومة.
ما يطالب به السيد الجيراري من إبعاد الملك عن التدخل في الملفات الحساسة ذات المخاطر غير المتوقعة هو ما يطالب به الديمقراطيون، على قلتهم، في هذه البلاد.. أي نظام ملكي برلماني لا يحتك فيه الجالس على العرش بالتدبير اليومي للملفات الصغيرة والكبيرة.. نظام يسود فيه الملك ولا يحكم، مع خصوصية مغربية انتقالية تقضي بتقوية دور التحكيم المنوط بالملك، ودوره الرمزي في المجال الديني، في بيئة سياسية وحزبية ليست ناضجة بما يكفي الآن للتداول بسلاسة على الحكم.
لا يمكن أن يصفق البعض لتدخل الملك اليومي في السياسات العمومية، وفي التعيينات الاستراتيجية، وفي العمل الاجتماعي والإحساني والسياسي والديني والعسكري والثقافي والدبلوماسي والاقتصادي… ولا يرحبوا في الوقت ذاته بتدخله في إدارة الأزمات الصعبة مثل حراك الريف، بدعوى أن في المسألة مغامرة… نعم، هناك مغامرة ومغامرة كبيرة، ليس فقط في تدخل الملك في ملف حراك الريف، بل في إدارة مفاصل الحكم اليوم مركزيا، وإضعاف الأحزاب السياسية والنقابات والحكومات والبرلمانات والصحافة والمجتمع المدني، وكل فضاءات الفعل العمومي، وترك القصر بدون وقاية من الاصطدامات مع الشارع..
اصطدامات تقع وستقع أكثر في المستقبل، في بلاد تدبر الندرة ولا توزع الوفرة.. بلاد تدير جل الأزمات ولا تحلها.. بلاد نظام الحكامة فيها مثل الأقرع أينما ضربته يسيل دمه.. بلاد بطالة الشباب فيها تفوق 30%، وسوق الشغل أضيق من عين الإبرة.. بلاد سقط فيها جدار الخوف ولم يبنَ فيها صرح التنمية.. بلاد تتأثر برياح الشرق والغرب، و19 مليون مغربي مربوط فيها بالأنترنت من هواتفهم المحمولة… هذه هي المخاطر الحقيقية التي تحيط ببيضة الاستقرار، وتجعل المغاربة يضعون أيديهم على قلوبهم كلما تحركت تظاهرة أو مسيرة أو احتجاج، لهذا سار الجراري والحكماء في المغرب على نهج أهل الملحون، الذين يقولون كلمتهم ويمشون بين الناس يرددون: «الكسوة الي عارية لا تلبسهاش***الي ما عنده اعقل يتعزى فيه».