بقلم : توفيق بو عشرين
لا يفتح كتاب المثقفين “الملتزمين” في هذا العصر دون أن يذكر اسم خوان غويتسلو ابن مدينة مراكش البار، الذي عاش فيها وعاشت في داخله، ولم يهدأ له بال حتى أدخل ساحتها الساحرة (جامع الفنا)، إلى قائمة التراث العالمي المحفوظ في اليونسكو…
أول أمس أسلم غويتسلو الروح إلى صاحبها في بيته العتيق في المدينة القديمة في مراكش، مات جسديا، لكن ثقافيا وفكريا لم يمت، بل خلف وراءه تراثا سيبقي اسمه محفورا في ذاكرة أجيال كثيرة…
أمضى حفيد سرفانتيس 86 سنة فوق هذه الأرض، وترك عشرات الكتب والمؤلفات، لكنه ترك أهم من هذا كله. ترك سيرة مثقف لم يهادن الديكتاتورية، ولم يرفع الراية البيضاء أمام العنصرية، ولم يتعايش مع المركزية الغربية، ولم يهضم القومية المتعصبة، التي تزرع الكراهية والحرب بين بني البشر… مسار حياة ابن برشلونة رسم يوم قتل الدكتاتور فرانكو والدته في قصف عشوائي إبان الحرب الأهلية (1936 / 1939)، عندها قرر الصبي ألا حياة له تحت سقف الحكم الاستبدادي، ولا مهنة له خارج الكتابة، ولا عقيدة له خارج ملاحقة الدم وإعلاء صوته ألا يقول المثل: “إن صوت الدم دائما أقوى” …
ولأن العالم بيت من لا بيت له، فإن الشاب خوان رحل إلى باريس وهو ابن العشرين وتحول من لاجيء ثقافي إلى لاجيء سياسي، حيث لم يوقر نظام فرانكو، وظل شوكة في حلق نظامه العسكري وحليفته الكبرى الكنيسة الكاثوليكية، التي أطلقت على حرب فرانكو ضد أهله الإسبان الحرب المقدسة، ولهذا تألم خوان غويتسلو كثيرا عندما اختارته ليبيا ليحمل جائزة القذافي التي تبلغ مليون دولار فرفض تسلم الجائزة، وكتب رسالة معبرة جدا يشرح فيها أسباب رفض الجائزة التي يقول عنها، إنها لدواع سياسية وليست ثقافية أو أدبية، وإنه لكي يبقى منسجما مع ذاته وتاريخه ومواقفه، فإنه لا يمكن أن يقبل بجائزة من نظام ديكتاتوري، وهو الذي أمضى كل حياته يناهض الديكتاتورية، ويلاحقها بالقلم والكلمة والرأي.. نزلت رسالة خوان كالصاعقة على ديكتاتور باب العزيزية معمر القذافي، فما كان من اللجنة التي تمنح الجائزة إلا أن حولتها لمثقف مصري، اسمه جابر عصفور، ففرح بها مثلما يفرح الصبي بلعبة تهدى له، ولم ير فيها ما يعيب سيرته وموقفه، فكان هو الآخر منسجما مع ذاته وتاريخه…
يقول غويتسلو عن علاقته كمثقف بالمال: “أنا لا أكتب لكسب قوتي، بل أكسب قوتي لأستمر في الكتابة حرا بلا قيود، أنا كاتب للأقليات، ولم أطمح يوما لأكون كاتبا مشهورا أو كثير القرّاء، أنا أبحث عن قارئ يعيد قراءة ما أكتب، هذا يكفيني، لم أرضخ يوما لديكتاتورية الجمهور ولا لديكتاتورية دور النشر”.
أينما كان الدم يراق كان غويتسلو يشد الرحال ليسمع صوت الضحايا إلى العالم الذي لم يعد يسمع إلا نفسه ومصالحه وأنانيته، سافر إلى سراييفو التي كتب منها دفاتر بقيت للتاريخ في الصحافة الدولية “دفاتر سراييفو وحصار الحصار”، وسافر إلى فلسطين حيث ساند ياسر عرفات والقضية الفلسطينية وهو يعرف نفوذ اليهود في الأوساط الثقافية والإعلامية في أوروبا وأمريكا، سافر إلى العراق حيث وقف ضد حصار شعب وتدمير حضارة وهو يعرف جبروت الآلة الأمريكية..
حياة غويتسلو في مراكش كانت بسيطة جدا وكان يمضي جل وقته بين الناس البسطاء الذين تعلم لغتهم وتقاليدهم ونمط عيشهم، وأحبهم كما لم يحب الأوساط المخملية والصالونات الأدبية، حيث يحضر فيها كل شيء، إلا الصدق والعفوية والانسجام مع النفس…
أحب هذا الإسباني الثقافة العربية ودافع عنها أكثر من أبنائها، وناهض كل الكليشهات التي وجدها في طريقه عن الإسلام والثقافة العربية، ودعا إلى التعايش بين كل الحضارات على قاعدة الكفر بالقوميات المتعصبة التي رأى أنها الشر الأكبر، الذي يبعد البشر عن بعضهم البعض ويزرع الفرقة بينهم، وقال مقولته الشهيرة: “القومية هي أم الرذائل”.
ليس كل من يكتب يستحق حمل لقب مثقف، وليس كل من يظهر في الإعلام حاملا صفة دكتور أو باحث أو أستاذ أو خبير، يستحق لقب مثقف، وليس كل واحد يجلس عند باب السلطان يقرض الشعر مثقفا. المثقف علم وموقف وخبرة ورأي في الشان العام la chose publique واستعداد للتضحية من أجل قول الحقيقة للسلطة أيا كانت هذه السلطة، سياسية أو اجتماعية أو دينية. وبهذا وحده يكون المثقف مثقفا، هذا هو درس من ندفن اليوم تحت ترابنا، على أمل أن يخرج من إرثه من يشبهه من أبناء جلدتنا.