بقلم : توفيق بو عشرين
دون أن يرف له جفن، ودون أن تعلو وجهه علامات الخجل، انبرى وزير المالية، محمد بوسعيد، للدفاع، بأثر رجعي، عن «خدام الدولة» في المغرب، وعن مشروعية حصولهم على أراضٍ بثمن «البونج»، 300 درهم للمتر في الكيلومتر التاسع في طريق زعير بالرباط.
حصل هذا في البرلمان الأسبوع الماضي، عندما كان وزير المالية يقدم عرضا في اللجنة المختصة حول القانون المالي لسنة 2017. ورد ذلك في تعليق للوزير على كلمة النائبة، منى أفتاتي، التي كانت تناقش ميزانية صندوق التضامن للسكنى، واعتبرت أن الإعفاءات الضريبية التي يستفيد منها خدام الدولة المحظوظون لم تعد مقبولة، في الوقت الذي تجر فيه الدولة الفقراء والمهمشين والضعفاء وسكّان أحياء الصفيح إلى المحاكم عندما يعجزون عن أداء ما بذمتهم لهذا الصندوق… كلمة خدام الدولة أزعجت الوزير الأزرق، فقرر الرد على هذا التهجم على إحدى «المعالم السياسية» في البلد، وإحدى الركائز التي يقوم عليها المغرب.. «خدام الدولة»، فقال للنائبة التي تجرأت عليه، وغمزت، من بين الكلمات، إلى استفادته هو شخصيا من بقعة أرض في ملكية الدولة، بنى عليها فيلا فسيحة في طريق زعير بثمن 300 درهم للمتر المربع، في حين أن الثمن الحقيقي لهذه الأرض هو 4000 درهم للمتر المربع.. قال بوسعيد لمنى أفتاتي ولكل من يهمه أمر هذا الموضوع: «لا أقبل هذا التنقيص من خدام الدولة، لأنهم يقومون بأدوار مهمة لصالح بلدهم»، ولكي يضع خاتم الدمغة على تبريره للريع الذي استفاد منه رفقة زملائه في نادي الكيلومتر التاسع، قال وزير المالية: «حتى في فرنسا تقدم الدولة أراضي لخدامها على هذه الشاكلة». النائبة البرلمانية عن فريق البيجيدي لم تبلع هذا الجواب من الوزير، وطالبته بالكف عن تبرير ما لا يُبرر، فكل المواطنين الصالحين يستحقون أن يكونوا خداما للدولة، وطالبته بالإفصاح عن الأساس القانوني الذي يسمح له ولرفاقه في خدمة الدولة بالحصول على أراضٍ عمومية بثمن رمزي، ودون مزاد علني، ولا شفافية، ولا احترام لأبسط معايير تفويت الملك العمومي إلى الأشخاص… بوسعيد أغلق فمه ولم يرد على نائبة الأمة، ولماذا سيجيب؟ فهو لا يقدم حسابا لأحد، فلم يجرؤ في الانتخابات الماضية على الترشح للاقتراع العام ليجرب شعبيته لدى الناخب، وترك أمر الدفاع عنه للعودة إلى الحكومة لـ«أولياء نعمته» الذين خدمهم، فحزبه لا يخاف التصويت العقابي، ولا المساءلة الشعبية، ولا قضاء بلا أسنان ولا أظافر.. قضاء لا يصبح شرسا إلا في وجه الضعفاء ومن لا حماية لهم من غلواء السلطة.
إذن، السيد بوسعيد وحصاد ولفتيت، وغيرهم ممن حصلوا على «غنيمة» خدمة الدولة، مطمئنون إلى أن المحاسبة ممنوعة من الصرف في المغرب، وأنهم لا يتقاضون سوى ما يستحقونه، مقابل الخدمات التي يقدمونها للنظام وليس للدولة.. خدمات تبتدئ من تنفيذ التعليمات، كل التعليمات، حتى تلك التي تقع خارج القانون، ولا تنتهي بإغلاق الفم حتى بعد التقاعد وحمل أسرار الخدمة إلى القبر، ثم، كيف سنجعل نخب مدرسة الطرق والقناطر في باريس -وهي من أرقى وأعرق المدارس في أوروبا- تقبل أن تصير قطع غيار في آلة عتيقة، وأدوات تنفيذ في سياسات تقليدية وسلطوية، وعقول تنفيذ لا عقول تخطيط، ونخبا للاستهلاك السياسي؟ كيف سيرضى هؤلاء بأداء هذه الأدوار دون أن ننعم عليهم بامتيازات تعوض كفاءتهم، وبأراضٍ تعوض مساراتهم المجهضة في آلة سلطة؟
بوسعيد يدعي أن الإكراميات التي تعطيها السلطة لخدامها يوجد مثيل لها في فرنسا مع les serviteurs de l’état، وأنا أشهد، بعد بحث طويل في الأرشيف الفرنسي، بأن كلام وزيرنا الأزرق صحيح، فقط ينقصه بعض التدقيق. خدام الدولة في فرنسا كانوا يحظون بامتيازات كثيرة، لكن هذا كان في القرون الوسطى وليس الآن، حيث كان النبلاء يشترون المناصب في الإدارة من قبل البلاط، ويدفعون مقابل أن يصيروا خداما للدولة ليتسلطوا على الشعب. إن كل هذا انتهى مع قيام الثورة الفرنسية سنة 1789، ووصلت فرنسا إلى اليوم الذي يحاسب فيه الشعب مشروع رئيس للبلاد خسر بطاقة العبور إلى قصر الإليزيه لأنه منح زوجته 2300 أورو راتبا شهريا عن وظيفة لم تقم بها في البرلمان.
بلا شك أن فرانسوا فيون هذا يتعرض للسخرية من قبل خدام الدولة في المغرب، الذين اغتنوا من امتيازات المنصب القانونية وغير القانونية، ومازالوا قادرين على الدفاع عن سياسة «اعطيني نعطيك» دون إحساس بالخجل أو الخوف.
الدولة لا تحتاج إلى خدم.. الدولة تحتاج إلى مسؤولين يحترمون القانون، ويتهيبون من الاقتراب من المال العام، ويعتبرون خدمة الوطن شرفا لا يقايض بمال أو أرض أو امتياز، أما السلطة فهي التي تحتاج إلى خدم وحشم مادامت تدفع من جيب الشعب، فالذي يدفع من جيب الآخرين لا شيء يغلو عليه.