بقلم : توفيق بو عشرين
بعد ربع قرن، التحقت حركة حماس بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأعلنت قبولها بدولة فلسطينية على حدود 67، بعدما ظلت تعارض وتكفر وتخون جماعة أوسلو، وعلى رأسها ياسر عرفات، الذي عدل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية سنة… ليتكيف مع المتغيرات الدولية، وليفتح لشعبه ممرات للعودة إلى جزء من الأرض المحتلة، بعدما ضاق العالم العربي بالبندقية الفلسطينية، وصارت الكوفية الشهيرة تحرج رؤساء 22 بلدا عربيا كانوا، زمن الخمسينات والستينات والسبعينات، يستثمرون اسم فلسطين لبسط سلطتهم على شعبهم باسم تحرير أولى القبلتين وثاني الحرمين، وبعدما تغيرت أحوال الزمن، وذابت ثلوج الحرب الباردة، وهيمنت أمريكا على العالم، وازداد نفوذ إسرائيل في واشنطن وفي جل عواصم أوروبا، صارت قضية فلسطين عبئا على الحكام العرب، وصاروا يتجنبون لقاء عرفات ورموز الثورة الفلسطينية، فما كان من «أبوعمار» إلا أن جنح إلى التسوية مع إسرائيل، وإلى خفض سقف مطالبه عله يجد للفلسطينيين مكانا تحت الشمس… لكن حماس التسعينات ليست هي حماس اليوم.. منذ دخول عرفات إلى غزة وأريحا، وجزء من الصفة الغربية، وهي ترمي الملح في الجرح، محاولة تخريب العملية السلمية كلها باسم مبدأ تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وأمس فقط فهمت أن هذا حلم مشروع وليس خريطة طريق واقعية.
في ميثاقها المعلن سنة 1988، ووثيقتها السياسية المعلنة في فاتح ماي 2017، مسافة سياسية وإيديولوجية كبيرة، لا يمكن للمراقب أن يقفز حولها… كانت حماس قبل 30 سنة تعرف نفسها كحركة دينية، وأصبحت 2017 تعرف نفسها كحركة مدنية بمرجعية إسلامية. كانت حماس قبل 30 سنة تعلن بوضوح انتسابها إلى جماعة الإخوان المسلمين، فصارت اليوم تأخذ مسافة من جماعة البنا، ولا تعلن أي انتساب إليها، في وثيقتها الجديدة نقرأ: «تؤكد حماس استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، وعدم ارتهانها لأي جهة خارجية، وانفتاح حماس على كل التيارات الوطنية، والبحث عن المشترك الإنساني بينهما». كانت حماس قبل 30 سنة تعتبر عملها في فلسطين جهادا دينيا ضد اليهود المحتلين لأرض الإسلام، التي حررها عمر بن الخطاب، فصارت سنة 2017 تعتبر مقاومتها ضد الاحتلال والصهيونية وليس ضد اليهود كيهود، بل ذهبت أكثر من هذا، عندما استنكرت، في الميثاق الجديد، ما تعرض له اليهود من اضطهاد في أوروبا: «ترفض حماس اضطهاد أي إنسان، أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي، وترى أن المشكلة اليهودية والعداء للسامية واضطهاد اليهود ظواهر ارتبطت أساسا بالتاريخ الأوروبي». كانت حماس ترفض أي حل جزئي للاحتلال، وتطالب بكل شيء أو لا شيء، وصارت اليوم تقبل بإقامة دولة فلسطينية على حدود 67، أي على أقل من 25% من أرض فلسطين التاريخية، وتقول في ميثاقها الجديد: «حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على خطوط الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة». في الوثيقة القديمة كانت حماس تجاهد وفق النصوص المقدسة في القرآن والسنة، وفي وثيقة اليوم تتحدث حماس عن مقاومتها في ظل القانون الدولي وشرائع الأرض وحقوق الإنسان.. ماذا يعني كل هذا؟
أولا: هذا معناه أن حماس، باعتبارها تيارا ينتمي إلى جماعات الإسلام السياسي، التحقت بركب المراجعات العميقة التي طالت وتطال الحركات الأصولية في العالم العربي، التي فهمت متأخرة أنها تعيش في زمن مختلف عن زمن الرعيل الأول للإسلام، وأن الاشتغال بالسياسة والمقاومة والنضال، في عالم معقد وإكراهات متعددة، يتطلب الكثير من المرونة والذكاء، والتعاون مع الآخر المختلف معك سياسيا وإيديولوجيا، وحتى دينيا، وإن الواقعية في الحركة لا تناقض المبدئية في التفكير.
ثانيا: مراجعات حركة المقاومة الإسلامية حماس جاءت بعدما انتقلت من كونها حركة تناضل وتقاوم إلى كونها سلطة، وجهاز إدارة يقوم على شؤون الناس في غزة، التي تضم حوالي مليوني فلسطيني، يعيشون في أكبر سجن في العالم، وهنا يتضح الدور الذي تلعبه المشاركة السياسية في إدارة الحكم في تغيير الفكر والمنهج والإيديولوجيا لدى كل التيارات، حتى المتشددة منها، ولهذا، كلما كانت المجتمعات العربية والمسلمة مفتوحة لمشاركة جميع التيارات في تدبير القرار المحلي أو الوطني والخضوع للآليات الديمقراطية، ظلت الأفكار والإيديولوجيات والمشاريع السياسية مسيجة بإطار من الاعتدال والواقعية والتسامح والقبول بالاختلاف، والعكس صحيح.
القضية الفلسطينية لن تحل أبدا إذا ظلت قضية دينية وعقدية، لأن الإنسان، أي إنسان، يمكن أن يتفاوض على كل شيء سوى على دينه وعقيدته، وسيظل البشر عالقين في بؤرة التوتر هذه إلى ما لا نهاية، خاصة الفلسطينيين، الطرف الأضعف في هذه السلسلة. لا بد من إرجاع الصراع إلى طابعه العقاري وليس الديني، أي أن الصراع اليوم هو حول احتلال أرض، وتشريد شعب، وسياسة ميز عنصري ضد الفلسطينيين، وليس قضية دينية بين مسلمين ويهود، بين مسجد وكنيس، بين قدس وحائط مبكى. إن التكييف الديني للمسألة الفلسطينية لا يخدم إلا اليمين الإسرائيلي المتعصب، الذي يستثمر في الطابع الديني للصراع ليجعل جبهته موحدة، وليمنع عقل العالم من التفكير في أقدم صراع على وجه الأرض