بقلم - توفيق بو عشرين
يحاول حزب العدالة والتنمية أن يرفع رأسه بعد الضربة القوية التي تلقاها إثر الإطاحة بزعيمه في مارس الماضي بعد خمسة أشهر من البلوكاج، ويحاول المصباح أن يمتص «بوادر الفتنة الداخلية» التي نشبت وسطه بفعل الانقسام الحاد الجاري بين «تيار الوزراء»، الذي يدافع عن التنازلات التي قدمها ويقدمها العثماني مقابل الاستمرار في رئاسة الحكومة، و«تيار بنكيران» الذي يدعو إلى الاستمرار في مقاومة التحكم، وعدم الرضوخ لإغراءات المنصب، والوفاء لجمهور الحزب الواسع الذي حمل المصباح إلى المقدمة في ثلاثة استحقاقات متتالية.
حول الأزمة الحادة التي يعيشها الحزب هناك جوابان؛ الأول يقول به تيار الوزراء الذي يقوده العثماني والرميد، ومفاده الاستمرار في الحكومة مهما كان سقفها، لأن خسارتها ستكون خسارة للحزب ولتيار الإصلاح في المجتمع، لذلك، وجب التحلي بالواقعية والمرونة، والابتعاد عن كل ما قد يتسبب في الاصطدام بالقصر، الذي استعاد زمام المبادرة بعد إعلان نتائج اقتراع أكتوبر الماضي، فمادام الظرف الإقليمي والسياق الدولي في غير صالح الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، ومادام المشهد الحزبي الوطني خرابا في خراب، ومادامت الدولة غير مستعدة لمواصلة مسلسل الإصلاحات التي بدأها بنكيران، فإن العدالة والتنمية لا يمكن أن يكون هو خط الدفاع الأخير عن الانتقال الديمقراطي في هذه المرحلة، ولا يمكن للحزب الإسلامي أن يسهل مهمة من يتربص به الدوائر، ويحاول أن يحفر بينه وبين النظام هوة لا يمكن ردمها. المصباح كان دائما حزب توافق ومرونة وتدرج، ولا يمكن أن يخرج عن طبيعته المحافظة اليوم فقط لأن بنكيران غاضب، ولأن المواطنين أعطوه الصدارة في انتخابات 2015 و2016.. «أصوات المواطنين إذا مشات دابا تجي»، المهم هو سلامة الحزب واستقرار المغرب، واستمرار الأمل في الإصلاحات، ولو كانت صغيرة… وبمقتضى هذا التحليل «الواقعي»، فإن التجديد لبنكيران خط أحمر لأنه سيدفع الحزب إلى الاصطدام بالدولة، التي لم تعد راغبة في الزعيم الذي فاقت شعبيته وتأثيره المسموح به في حقل سياسي مسيج بأسلاك كهربائية. رجل المرحلة اليوم هو العثماني، أولا، لأنه رئيس حكومة اختاره الملك، وأعرب عن استعداده للاشتغال معه، وثانيا، لأنه رجل توافق وهدوء، وربان يتحمل كل الضربات، ويمكن أن يقود سفينة الحزب إلى بر الأمان في مرحلة صعبة ودقيقة جدا من حياة المصباح.
الرأي الثاني وسط الحزب يختلف عن هذا التحليل، وحول التشخيص الذي يبنى عليه، ومن ثم يقترح مداخل أخرى لحل الأزمة التي يرى أسبابها الأصلية في الانقلاب على نتائج الاقتراع.. انقلاب بدأت بوادره في غرفة عمليات في فيلا إدريس لشكر يوم الثامن من أكتوبر بحضور إلياس العماري والعنصر وشباط، الذي أفسد المحاولة، وتواصل الانقلاب السياسي طيلة خمسة أشهر بواسطة البلوكاج الذي قاده أخنوش، وانتهى بالإطاحة برأس بنكيران، وفتح المجال لتشكيل أغلبية مخدومة وزعت مقاعد الحكومة فيها خارج نتائج الاقتراع، وسلبت العثماني جوهر صلاحياته، فإذا تنازل حزب المصباح عن جوهر الإصلاح الديمقراطي، متمثلا في احترام إرادة الناخب، فإنه يفتح أبواب جهنم ليس فقط على الحزب وصورته، بل على استقرار البلاد ومستقبل مؤسساتها، فالمرونة تكون في الوسائل لا في الأهداف، والتفاوض يكون على أقصر طريق للوصول إلى الديمقراطية والتنمية والكرامة، وليس التفاوض على هذه المبادئ والأهداف الكبرى، وإلا فإننا أمام صفقات وليس مفاوضات.. أمام «اعطيني نعطيك»، ولسنا نبحث عن أرضية مشتركة لتحقيق الحلم المغربي.
هذه القراءة ترى أن «تيار الاستوزار» يسقط هواجسه ومخاوفه ومشاريعه الشخصية على واقع العلاقة بين الحزب والقصر، وهي علاقة كانت مبنية على الوضوح والصراحة، وقول الحق حتى في أحلك الظروف، وأن من يحب الملك عليه أن يصارحه، ومن يخشى على الملكية يجب أن يقول لها الحقيقة، وأن ينبه الجميع إلى مخاطر إحياء السلطوية التي تشكل خطرا على الاستقرار وعلى التنمية لأنها (السلطوية) تفتح هوة عميقة بين الشعب ومؤسساته، وتعطي الفساد حصانة، وتمنح العزوف عن السياسة ألف مبرر ومبرر، ثم إن الرميد والعثماني والداودي ويتيم لا يمكن أن يعطوا دروسا في التوافق مع الملكية لبنكيران، منظر المراجعات العميقة التي عرفها هذا التيار من الحركة الإسلامية، والذي خرج مبكرا من جبة الثورة إلى جلباب الإصلاح في الثمانيات وليس الآن، حيث لم تعد النزعة الثورية موضة في الحقل السياسي.
إن الإسلاميين، دون مشروع سياسي ديمقراطي، ودون بوصلة إصلاحية، ودون استقلال عن السلطة، ودون جرأة واقعية، ودون «معقول سياسي»، ودون عمق شعبي، يصبحون مجرد رقم سياسي مثل الآخرين، أو أسوأ منهم.. إنهم مجرد «طلبة» يقرؤون القرآن الكريم في المقابر، ويتبعون مآدب الطعام في الأفراح والأتراح… «تيار الاستوزار» مازال يتصرف في الحزب بعقلية الجماعة، ولم يدرك أن مليوني ناخب الذين أعطوه أصواتهم حملوه مسؤولية كبيرة ومصيرية في الدفاع عنهم وتمثيلهم، وقيادة البلاد مع الملك نحو بر الأمان، أما إذا اختاروا أن يكونوا موظفين كبارا عند أخنوش، فإن المغاربة سيلفظونهم كما لفظوا من سبقهم من اتحاديين واستقلاليين، وبعدها لن يعودوا صالحين لشيء…
أصحاب هذا التحليل يرون أن الجواب السياسي والتنظيمي عن هذه المرحلة يبدأ بالتجديد لبنكيران لولاية ثالثة، إذا رأى المؤتمر ذلك، لأن بنكيران أصبح يحوز شعبية كبيرة، وشرعية أخلاقية صنعها في خمسة أشهر من صموده أمام العاصفة، أما الجواب الثاني فهو المحافظة على وحدة الحزب، والتوجه نحو جيل جديد من الإصلاحات السياسية لإنقاذ تجربة الانتقال الديمقراطي، وفي مقدمتها إصلاح النظام الانتخابي الذي يشوه الحياة السياسية، ويضعف مؤسستي الحكومة والبرلمان، والباقي متروك للتدبير اليومي… هل تقبل الدولة هذا التوجه؟ هذا سؤال ممنوع من الصرف، لأن الأحزاب لا تسير بـ«الريموت كنترول»، ولأن الدولة لا تعرف أحيانا مصلحتها البعيدة، لأن هناك من يشوش الرؤية أمامها، ودور الأحزاب أن تنبه الدولة إلى المخاطر المحيطة بها، لا أن تتكيف مع مزاجها، وتجاري أهواءها، فالدولة، مثلا، لم تكن في ما مضى مستعدة للقبول بمشاركة الإسلاميين، لكنها غيرت رأيها، وراجعت نفسها، والشيء ذاته سيقع بعد أن ترى أن الرهان على قتل السياسة والأحزاب لن يقود إلا إلى الخراب، في بلاد يقتل التدافع فيها على الدقيق 15 امرأة فقيرة في ضواحي الصويرة. هذا عار على جبين الوطن.