بقلم - توفيق بو عشرين
يدور الحقل السياسي المغربي اليوم حول سؤالين: ماذا سيفعل الملك بعد أن يدخل من إجازة المرض إلى مملكته؟ وماذا سيقرر بنكيران بشأن مصيره ومصير حكومة العثماني في المؤتمر المقبل للحزب نهاية هذا العام؟ وهكذا يبدو المشهد السياسي كله مختصرا ومختزلا في إجابتين عن سؤالين.. الباقي تفاصيل بلا قيمة تقريبا.
هذا توصيف وليس رأيا، وهو عطب وليس ميزة يضيفها أحد إلى حسابه. لقد جرى تجريف الحياة السياسية، حتى لم يعد فيها إلا القصر وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده عبد الإله بنكيران، ويقود معه زعامة لم تنطفئ بخروج صاحبها من رئاسة الحكومة، بالطريقة التي رآها الجميع، وهي طريقة غير طبيعية بتاتا، جرى اصطناعها قسرا للتخلص من رجل ربح ثلاثة انتخابات متتالية وبمعدلات قياسية، واستطاع أن يحفر لنفسه اسما عند الكبير والصغير، عند الصديق والعدو، ثم وجد نفسه في بيته مهانا محبطا يشكو سهام إخوانه قبل غيرهم تمتد إلى رقبته، فقط لأنه كان ينوي تشكيل حكومة بمستوى مخرجات السابع من أكتوبر، لا بسقف أدنى، ولا بمزيد من تنازلات لا تنفع أحدا سوى من يهوى قتل السياسة، ومعها قتل الأمل في النفوس.
في خطاب العرش الأخير، فجر الملك محمد السادس قنبلة «سياسية» في وجه الأحزاب والإدارة والنخب السياسية، كما لم يحصل منذ استقلال البلد، وقبل أن ينهي الجالس على العرش خطابه المزلزل، بدأت «النخب المولوية» ترمي عليه الورود وكأنها غير معنية بما جاء في خطابه من حكم أقرب إلى الخيانة العظمى.
وحده بنكيران امتلك الشجاعة، ورد على الرسائل التي بعثها الملك يوما قبل احتفائه بعيد الجلوس الثامن عشر، ووضع زعيم “المصباح” مفاتيح حل الحزب بيد الملك إن هو تأكد أن حزب العدالة والتنمية «خان الأمانة»، أو تواطأت حكومته على تعطيل أوراش منارة المتوسط لأسباب سياسوية.
بنكيران أخرج من الحكومة لكنه باق في السياسة، وهو وإن انحنى للعاصفة حتى تمر، فإنه يجد نفسه في قلب الحدث السياسي، خاصة بعدما عرت أزمة الحسيمة ضعف الحكومة، وترهل الأغلبية، وارتباك «تيار الوزراء» في العدالة والتنمية الذي لم يستطع، إلى الآن، إيجاد غطاء سياسي، لا رداء أخلاقيا يغطي على المشاركة في حكومة أخنوش ولشكر والعنصر وساجد، وكل هؤلاء وجوه عاقبها الناخب في السابع من أكتوبر، ثم طلعت عليه في أبريل تلتقط صورا جماعية مع العثماني والرميد، وتدعي أنها تشكل حكومة المستقبل.. حكومة تدعي اليوم أنها صنعت 120 إنجازا في 120 يوما قضتها في مكاتب الوزراء، فمن سنصدق.. حكم الملك أم استئناف العثماني!؟ طاجين السابع من أكتوبر احترق، ومشروع بنكيران للإصلاح في ظل الاستقرار احترق، وحزب الدولة احترق، وحكومة العثماني احترقت، وأحزاب الأغلبية احترقت، وحزب الاستقلال دمر تحت القصف، وكل ما بني من إنجازات فوق الربيع المغربي قبل ست سنوات يُهدم… لا يوجد في الساحة اليوم سوى الرماد.
تأملوا صورة ما يجري بشأن أكبر جرح سياسي واجتماعي وحقوقي مفتوح اليوم، وأعني بذلك حراك الحسيمة. الدولة والسلطة والحكومة والسياسة والأحزاب والنقابات والبرلمان والوسطاء والبوليس والقضاء.. كل هؤلاء لم يفلحوا في حل أزمة الريف التي ستكمل الشهر المقبل سنة كاملة، وحتى عندما سكت الشارع وانصرف أهل الريف إلى بيوتهم يحصون خسائرهم، ويضمدون جراحهم، لا تسمع اليوم، في كل أرجاء البلاد، إلا أصوات 360 معتقلا في السجون، وخلفهم تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والأجنبية تطالب بعودة العقل والرحمة والمنطق إلى عقل سلطة باغتها احتجاج الشارع فلم تفهمه، وعندما فهمته لم تستوعبه، وعندما استوعبته لم تمتلك حكمة الاعتراف به، والتعامل معه برفق وذكاء وسعة صدر…
حراك الريف لم يعرِّ الوضع الصحي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي في الريف فقط، بل عرى كذلك عطب التحول الديمقراطي في بلاد تعيش على إيقاع التردد في الإصلاحات.. بلاد تخطو خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، وتصنع أزمة في الصباح وتفرح بحلها في المساء، والأيام ليست أوراقا في أجندة تتساقط، بل هي حياة جيل، وأحلام بلاد، وفرص أمة تتبدد في عالم لا يرحم، وفي زمن لا يتوقف عن الدوران.