بقلم - توفيق بو عشرين
ظهر إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، أول أمس، على شاشة القناة التلفزية الأولى ليبعث رسالة واحدة، مفادها أن عبدالإله بنكيران وحكومته السابقة هي المسؤولة الأولى عن حراك الريف، وعن الأزمة التي تعصف بالبلد. وهذه الرسالة التي استغرقت من العماري ساعة و34 دقيقة على المباشر، تذكر بفقرة صغيرة جاءت في بيان فواد عالي الهمة، الذي رد فيه نشر خبر لقائه مع بنكيران البيان الصادر في 6/6/2017 جاء فيه: “إنني لم أرد إحراج عبد الإله بنكيران، خاصة أن أحداث الحسيمة، كما يعرف الجميع، ابتدأت وتواصلت لبضعة أشهر خلال فترة رئاسته للحكومة”.
“طاحت الصمعة علقوا بنكيران”. هذه آخر حلقة في السلسلة الكارثية لتدبير أزمة الريف، وهي تبادل الاتهامات بين جهات في الدولة ورئيس حكومة متقاعد، وترك النيران تشتعل في البيت. ولكي يرمي العماري ملح العطرية في الطاجين قال: (إن الحكومة السابقة متورطة في عقاب جماعي للحسيمة من خلال تجميد المشاريع التي وقع عليها الوزراء أمام الملك في 2015 ). وسبب كل هذا المكر الذي يحمله بنكيران لأهل الريف حسب العماري دائما (هو عدم تصويت الحسيمة على حزب العدالة والتنمية)، مع العلم أن (الناطق الرسمي) باسم الريف هذا لم يحصل سوى على 180 صوتا في جماعة قروية ترشح فيها لوحده. وفي جهة لم يحصل فيها على أغلبية الأصوات، لكنه نجح في هندسة خارطة الناخبين الكبار الذين أهدوه رئاسة جهة، هي اليوم محل مساءلة حقيقية من قبل الشارع ورفاق الزفزافي الذي لم يذكر بنكيران بسوء، لكنه لم يوفر شتيمة لم يرمها في وجه ابن عمه إلياس العماري الذي لم ير فيه إلا بيدقا يحرك من العاصمة…
هل سيصدق عاقل اليوم، أن حراك الريف من مبتدئه إلى خبره كان بسبب بنكيران وبنعبدالله والوردي… هؤلاء الذين دعا زعيم البام إلى محاكمتهم وإلى سجنهم… وفي نهاية البرنامج قال إلياس: “كلنا جبناء بمن فيهم أنا”… هذه هي الجملة الوحيدة التي كان العماري صادقا فيها، الباقي كله جعجعة بلا طحين وغبار كثيف لمنع الرؤية، وقذف أحقاد صغيرة بمنجنيق كبير بالأصالة والوكالة التي يعرف إلياس جيدا كيف يشتغل في كنفها، وكيف يصرف خدماتها…
أيها السادة شيء من العقل والحكمة والتروي مطلوب، خاصة في زمن الأزمات الصعبة، حيث تصبح الأخطاء خطايا، وسوء التقدير كوارث. البام وزعيمه كما قال نبيل بنعبدالله جزء من المشكل وليس جزءا من الحل، وإخراج إلياس الآن إلى الواجهة بعدما جرى ركنه إلى جنب لن يحل المشكل، بل سيفاقمه أكثر. حراك الريف له جذور تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتدبيرية تسائل سياسات عمومية عمرها من عمر استقلال المغرب، وليست مشكلة وليدة اليوم …
لنبقى في التواريخ الحديثة لفهم عمق الأزمة الحالية. تاريخيا كان الريف يعيش على موردين رئيسيين للدخل، التحويلات المالية (للدياسبورا الريفية) في الخارج إلى عائلاتهم في الداخل (المساعدات الإحسانية)، وزراعة الكيف وشيء من الصيد في بحيرة المتوسط التي تقل أسماكها يوما بعد آخر. الذي حدث أن تحويلات المهاجرين قلت منذ أن ضربت الأزمة الاقتصادية أوروبا سنة 2008، وعائدات زراعة الكيف تقلصت بسبب ضغوط الاتحاد الأوروبي على المغرب لملاحقة هذه التجارة، وتقليص المساحات المزروعة بالعشبة السحرية، إذا أضفنا إلى كل هذا عزلة المنطقة، وغياب مشاريع مهيكلة داخلها، وإلى ارتفاع معدل البطالة وسط الشباب، وإلى تقاعس الدولة عن توفير بدائل اقتصادية للناس، والتلاعب بالتقسيم الجهوي الذي حرم الحسيمة من مكانة عاصمة الريف، وجعلها قطعة هامشية في جهة كبيرة وبعيدة عنها، إرضاء لحزب الدولة الذي استحوذ على رئاسة الجماعات، وعلى الانتخابات دون أن تكون له تمثيلية سياسية حقيقية على الأرض…
هنا أصبحنا أمام حقل اجتماعي وسياسي واقتصادي قابل للانفجار ولا ينتظر سوى شرارة عود ثقاب، وهذا العود كان هو وفاة محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016، ولأن البلاد كانت مشلولة بالبلوكاج السياسي الذي لم يكن البام بعيدا عنه، وكانت حكومتها مشلولة لكونها مجرد حكومة تصريف الأعمال، فإن الحريق ظل يكبر ويكبر في غياب رجال الإطفاء، وتحولت إدارة الأزمة بالكامل إلى وزارة الداخلية التي كان يديرها حصاد والضريس باسم الدولة، وليس باسم الحكومة، هذان الوزيران لم يذكرهما إلياس العماري بأي سوء طيلة عمر برنامج التيجيني، الذي امتد إلى ساعة ونصف من القصف في كل اتجاه سوى في الاتجاه الصحيح، والمسوول حقيقة عما يجري في الحسيمة وفي مغرب اليوم، الذي أقفل قوس الإصلاح الديمقراطي، وفتح أقواس أخرى بلا عنوان …
في المغرب اليوم، ظاهرة اسمها إلياس العماري ولا وصف محدد لها، والسيد العماري يتحلى بمواهب كثيرة، ومنها ظهوره الكثيف في وسائل الإعلام القديمة والجديدة، حيث يقول كلما يخطر على باله، ولا يخطر على بالك، إلى درجة أنه في لقاء واحد يقول الشيء ونقيضه، ويصبغ الحقيقة بألوان كثيرة حتى لا يعود هو نفسه يعرف تلك الحقيقة التي أخفاها عن سابق قصد وسوء نية، فتختلط عليه حبال الكذب القصيرة منها والطويلة، فالكذب مثل ماء البحر كلما شرب منها الإنسان يزداد عطشا.