بقلم -مصطفى فحص
في بداية الحرب على ثورة الشعب السوري، دعمت طهران موقف النظام البعثي الرافض والمُعطل لكل المبادرات العربية والدولية، من أجل التوصل إلى حل سلمي، يحفظ الدولة ومؤسساتها، ويجنب سوريا حرباً طائفية مدمرة. فإلى جانب دعاية النظام التي شككت بسلمية المظاهرات، واعتبرت أن أيادي خارجية تحركها، وبأنها أداة للإرهابيين لضرب الاستقرار، كانت نخب الجهاز الدعائي الإيراني تقدم لأتباعها مصوغات عقائدية، تبرر رفضها التسوية مع الثورة، تحت ذريعة أنها لن تقبل صلحاً جديداً على غرار صلح الحسن بن علي مع معاوية.
لحظة شعورها بخطر يهدد وجودها في سوريا، لجأت النخب الإيرانية العقائدية إلى مقارنة خيار مصالحة النظام مع ثورة الشعب السوري في أشهرها الأولى بنتائج صلح الحسن مع معاوية، الذي يشرحه أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية وجيه قانصو في كتابه «الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ» بقوله: «كان وقع الصلح بمثابة صاعقة على كبار الخلص للبيت الشيعي، فالصلح عملياً لم يقتصر على بيعة معاوية والتنازل له عن كل ما يتعلق بالسلطة، بل كان بمثابة تفكيك كامل لمعسكر علي، وإنهاء الظاهرة الشيعية في مكونها العسكري والسياسي والبنيوي».
وفقاً لمصلحتها السياسية، لم تتردد هذه النخب في تبني قراءة رافضة لصلح الإمام الحسن من جديد، واختزاله بفكرة أنه تنازل عن السلطة لصالح الأمويين، بينما تؤكد أغلب الروايات الشيعية عن أهل البيت أن الحسن بن علي وصف الصُلح بقوله: «كانت جماجم العرب بيدي، ويسالمون لمن سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء المسلمين».
فرض الصُلح موقعاً ثانوياً للإمام الحسن في الموروث الشيعي، بالرغم من تعدد وجهات النظر لدى المؤرخين في توصيفه وتقييمه، فمنهم من اعتبره صلحاً ومنهم من اعتبره هدنة، بصرف النظر إذا كان صلحاً أو هدنة، إلا أنه في كلتا الحالتين كان موقفاً شجاعاً من الإمام الحسن في رفض استمرار القتال والانسحاب من المواجهة، موقف الحسن ينسجم كلياً مع تراث أهل البيت، ولا ينفصل عن حركة الإمام علي بن أبي طالب الذي حسم موقفه من الخلافة بقوله: «لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين»، وطَّبقه كل الأئمة بعد الإمام الحسين، من نجله زين العابدين إلى الإمام الحادي عشر الحسن العسكري، حيث كانوا ميالين إلى الصلح، وابتعدوا عن السلطة وتجنبوها باستثناء الإمام الرضا الذي سماه الخليفة العباسي المأمون ولياً لعهده، والجدير ذكره أن أغلب الثورات الهاشمية بعد حادثة كربلاء التي جرت ضد الأمويين والعباسيين، لم تأتِ مباشرة من أسرة الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء.
ولكن بناءً لمصلحة استراتيجية مستجدة أو مستعجلة، تخدم مصالح النظام الإيراني، أعاد مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي الاعتبار لصلح الإمام الحسن وغرّد قائلاً: «أعتقد أن الإمام حسن المجتبى هو أشجع شخص في تاريخ الإسلام، حيث استعد للتضحية بنفسه وباسمه بين أصحابه والمقربين منه، في سبيل المصلحة الحقيقية، فخضع للصلح، حتى يتمكن من صون الإسلام وحماية القرآن وتوجيه الأجيال القادمة في التاريخ في وقتها». موقف المرشد شكل مفاجأة واعتبر تمهيداً لخطوة إيرانية تراجعية أو تهيئة لتحولات في طبيعة أو نمط تفكير النظام، فعبارات المرشد في دلالتها لا تختلف عن قول مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيراني آية الله الخميني استعداده لتجرع كأس السم، لكن الفرق بين الأول والثاني أن الخميني أوقف حرباً استمرت 8 سنوات، بينما خامنئي يعرض الصلح بهدف البقاء.
لأسباب عديدة يتجنب أصحاب التفسيرات الانتقائية للموروث الشيعي، التطرق إلى صلح الإمام الحسن مع معاوية، خصوصاً في مرحلة الصعود الشيعي الإقليمي الذي ارتبط بالثورة الإيرانية، ومشروع تصديرها وتحولاتها الجيوعقائدية التي فرضت عسكرة الهوية تحت ذريعة حماية العقيدة، انطلاقاً من مظلومية تاريخية تم استخدامها في صراعات حالية، تختلف في جوهرها عما نقلته أمهات الكتب الشيعية عن تراث أهل البيت وأخلاقياتهم، إلا أن الاختزال المتعمد لمشروع البيت الطالبي ومشروعيته بفاجعة كربلاء وتداعياتها على العلاقة بين الفرق والمذاهب الإسلامية من القرن الرابع الهجري، إلى تبلور مشاريع الإسلام السياسي (بداية القرن الماضي) بشقيها السني والشيعي التي أقامت مشروعيتها على شعار رفعه آية الله الخميني «إن كل ما لدينا من كربلاء».
أما العودة الآن إلى الصُلح من بوابة البراغماتية وحفظ الأمة وموازين القوة، فليست سوى مقدمة للانتقال إلى مرحلة جديدة فيها تنازلات مؤلمة أمام واشنطن، يصفها المرشد الإيراني بالشجاعة.