بيننا قاضية أبدت رأيها في شأن مهني، والقاضيات لهن مكانة خاصة لدى الملك، إذ كن يؤدين يمين القضاة أمام جلالته، لا أمام زملائهن، وهو مكسب كان يجب على مشروع القانون التنظيمي الحفاظ عليه لدلالته القوية.
قال لنا الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه: «القاضيات منكم أكثر استقامة وتفان في العمل»، وعلى منواله أعْلَى الملك محمد السادس شأنهن بدستور المملكة.
لم يبالغ الملكان، فبيننا قاضيات مثابرات، مواظبات، لا يتخلفن أبدا عن جلساتهن.
وبيننا قاضيات حوامل يشاركن بأجنتهن في نصاب الجلسات والمداولات، ومنهن من يفاجئها المخاض فتنتقل من محكمتها إلى مستشفى الولادة رأسا!!
وبيننا قاضيات أرامل اختطفت يد المنون أزواجهن في مقتبل العمر، فتحملن عبء أسرهن، وتنقلن بين مدارس أبنائهن ومقار عملهن بانتظام!!
ولدينا قاضيات مريضات، يدارين المرض كي لا يخلفن مواعيد الجلسات، ولا يقدمن الشواهد الطبية جزافا، إلا إذا تفاقم الداء وعجز البدن فعلا عن العمل، ومن بينهن من اقتطع من أجرها وهي مصابة بكسر، فما اشتكين ولا تظلمن !!
واشتغلت معنا بالإدارة المركزية قاضيات يتأخرن بالوزارة إلى الهزيع الأخير من الليل أثناء إعداد الدراسات، وأزواجهن ينتظرونهن بمرآب السيارات، يرغون ويُزبدون، واشتغلن معنا بمنازل المديرين خارج أوقات العمل وأيامه لإعداد المشاريع والمقترحات.
ولنا قاضيات فقيهات، متمكنات من مهنتهن أشد تمكن، يشرفن بلدهن داخل المغرب وخارجه، ويمثلنه أحسن تمثيل، ومنهن من سُرِقت مؤلفاتهن وأثرى المستفيد من عائداتها ونسبها لنفسه ولم يحركن ساكنا !!
أمثال هذه الفئة يخشى منها الوزير أو البرلماني أو المستشار إن هي أبدت رأيها فيما تعتقده ونعتقده بالإجماع مشروعا لا يخدم المصلحة القضائية على الوجه الأكمل.
أفلم يكن من باب الرشد والصواب والتريث استمهال الخطى حتى لا يستفز القضاة باستعجالها؟ ألا يبلغ السيل الزبى متى أغلق الباب؟ وكيفما كانت الألفاظ المستعملة في التعبير عما يجيش بالصدور، فهي لن تصل ولو بالنزر اليسير إلى المستوى الهابط الرديء الذي نسمعه في بعض النقاشات العمومية المصحوبة بتشابك الأيدي والأسنان والألفاظ البذيئة بدون خجل!!
استعملت القاضية القياس، والعبرة بالمعاني لا المباني، وإني لأسأل: في ماذا هددت القاضية المشتكين؟ فهم ليسوا متقاضين مفترضين أمامها يخشون على حقوقهم من الضياع، والمعنى في الكلام لا يخرج عن تشبث القضاة بمكاسبهم واستقلالهم وكرامتهم التي يضمنها ملك البلاد بالدستور. فأين الخلل؟
إذا كانت لدينا قاضيات بهذا المستوى، فهناك في المقابل فئة من الذكور تأكل الثوم بفم بعضها البعض، تدفعها نحو الأذى وتنسل ثاوية كالشعرة من العجين، وفي هذا هي تشبه تماما شاعر الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) حسان بن ثابت، الذي كان يُباهي بشجاعته شعرا باسلا مقداما، فلّما استنجدت به النساء ومنهن زوجة النبي «ص» لاذ بالفرار فأجهزن – هن لوحدهن – على الكافر المُعتدي!!
أشباه حسان بن ثابت كثر بيننا، ينطبق عليهم قول نجيب محفوظ: «الثورات يصنعها المفكرون، وينفذها الشجعان، ويستفيد منها الجبناء». لذلك قد تصاب بالجنون عندما يزعجك قاض يطلب نشر أفكاره، فإذا اقترحت عليه أن تذكر اسمه تولى هاربا!!
القضاة الدبلوماسيون، الصامتون بكل اللغات المفترض فيهم أنهم الخصم والحكم، وأنَّهم جسم قضائي واحد، إذا مس الضرر عضوا منه تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمى، سيذكرون ومعهم السيد الوزير والمشتكون إن وجدوا، أن صوت مظلومة ارتفع أمام القاضي، فَهمَّ الحاجب بطردها وتكميم فمها، فانتفض القاضي وقال قولته المشهورة: «دعها تتكلم فالحق أنطقها»!!
لم تَرتش القاضية، ولم تخلف مواعيد جلساتها، ولم تحد عن التجرد والاستقلال وفق دستور المملكة الحالي، بل هي تدافع عن مكانتها اللائقة بها، كما اقتضاها ملوك البلاد، خلفا عن سلف، فهل نملك نحن أكثر مما يملكه الملوك؟