بقلم حسن طارق
لا يمكن بناء تموقع سياسي على يسار المشهد السياسي، بمجرد خطاب حول الحريات الفردية، ومواقف حول قضايا مجتمعية مثل الإجهاض والإعدام. الالتزام النضالي ضمن هذا الأفق، قد يوحد نشطاء حقوقيين من مشارب مختلفة تجمع على رؤية كونية وعالمية لحقوق الإنسان، أو قد ينبع من قناعات مجتمعية ليبرالية التوجه الفكري تعلي من قيمة «الفرد»، لكنه لوحده لا يمكنه أن يشكل عنوانا لليسار، خارج الهوية الديمقراطية والاختيارات الاجتماعية، وأساسا مع الحرص الكامل على ممارسة سياسية نابعة من صلب المجتمع، وبعيدة عن تدخل الدولة .
في التاريخ السياسي لبلادنا، انصهرت الفكرة اليسارية داخل الأفق الديمقراطي، ولأسباب عديدة كان اليسار في قلب المعارك الكبرى من أجل الديمقراطية. الواقع أنه يبدو كما لو فعل ذلك نيابة عن «اليمين» الغائب كقوة سياسية وفكرية مستقلة عن الدولة، لذلك وهذه من مفارقات التطور السياسي لبلادنا، كان على اليسار أن يدافع عن الحرية، وعن الحقوق المدنية والسياسية، قبل أن يدافع عن المساواة وعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني أنه كان عليه أن يكون قوة «ليبرالية» بالفعل، بالموازاة مع كونه قوة «اشتراكية» بالاختيار.
لذلك يمكن، اليوم، داخل العائلة اليسارية أن يقع الاختلاف حول ترتيب الأولويات، بين أطروحة تجسد «يسار الدولة» المتمسك بهاجس الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية، والمنشغل، أساسا، بجبهة الدولة، وبالشق السياسي لمسارات التغيير، وبين أطروحة «يسار المجتمع» المرتبط، أساسا، بالمعارك الثقافية، والمنشغل، أساسا، بجبهة المجتمع، وبالشق القيمي لمسارات التغيير، في واجهات الحرية والمساواة، والمنطلق من إعادة الاعتبار للمسألة الاجتماعية، كأحد مكونات خطابه المرجعي .
لكن هذا الاختلاف، والذي على أهميته، لا يعني أي تفاوت تفضيلي في الإيمان بالمرجعية الديمقراطية، يبقى داخل حدود العائلة الفكرية والإيديولوجية لليسار، لكنه يصبح عكس ذلك، عندما يتعلق الأمر بقوة سياسية اختارت التخلي عن قرارها السياسي وخدمة أجندة غير ديمقراطية، ذلك أن رهن القرار المستقل للحزب السياسي المنتمي إلى اليسار، ليس مناورة في التكتيك أو اختيارا إراديا يدخل في باب التقدير السياسي، بل هو قتل للسياسة، وإخراج للحزب من فضاء الشرعية المجتمعية إلى دائرة الأدوات السياسية / الإدارية الفاقدة المصداقية .
إن الاستقلال عن الدولة، وسيادية القرار، ليس ترفا زائدا في الممارسة السياسية لليسار، إنه شرط وجود حيوي لهذا اليسار، إذ لا وجود ليسار – بالتعريف- خارج تملكه قراراته المستقلة والسيادية .
مجمل القول، في نهاية التحليل، إن اليسار في الشرط المغربي المتسم بحالة خروج متردد من السلطوية، إما أن يكون ديمقراطيا أو لا يكون!
دون ذلك، فما يتم تخطيطه وتنفيذه، لصناعة يسار بدون استقلالية، وبالتالي بدون ديمقراطية، هو بالضبط محاولة حثيثة لوضع اليسار – كتراث ورمزية – في الاتجاه المعاكس للديمقراطية، تحت شعار زائف هو «الحداثة».