بقلم - حسن البطل
ساعدتني الصديقة المزمنة، سلوى النعيمي، في التدقيق والتفريق بين اسمي الأخوين: صدقي إسماعيل، وأدهم إسماعيل. الأول كان أستاذي للاجتماعيات والفلسفة في مدرسة جول جمّال، والثاني فنّان تشكيلي. تقول سلوى إن للأول رواية «العصاة» هي قرأتها، وأنا لا.
الأخوان إسماعيل من لاجئي صدمة ثلاثينيات القرن المنصرم، وضمّ تركيا للواء الإسكندرون. بلغني أن صدقي، القومي العروبي، لم يحتمل مشاركة قوات قتالية سورية في تحرير الكويت، إلى جانب تحالف دولي ـ عربي تقوده أميركا. وقف على طاولة في مقهى الهافانا الدمشقي، واستعاد صيحة خطاب اليازجي: «أفيقوا واستفيقوا أيها العرب».. ثم جنّ، وفقد عقله تماماً. بعد أن استمع الشاعر شوقي بغدادي، مع مثقفين سوريين، لتبريرات وزير الدفاع مصطفى طلاس للمشاركة، قال: «سألزم بيتي إلى الأبد».
لا أعرف متى مات زكي الارسوزي، العروبي المسيحي وأحد اللاجئين من الإسكندرون، وأبرز مفكّري حزب البعث العربي هناك، قبل أن ينضم للحزب أكرم الحوراني، ويصير اسمه «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وشعاره: «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة»، بينما كان شعاره في مهده لواء الإسكندرون هو: «العرب أمة واحدة ذوو رسالة خالدة».
مساحة لواء الإسكندرون 4000كم2، ويعدّ أجمل مناطق سورية، والأهم أن عاصمة اللواء هي أنطاكية، وإلى الآن يُعرّف بطاركة كنيستها الأرثوذكسية عن منصبهم: «بطريرك أنطاكية وسائر المشرق».
صدمة إلحاق الإسكندرون بتركيا في ثلاثينيات القرن المنصرم، سبقتها صدمة أخرى في عشرينيات ذلك القرن، عندما أعلن الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، تأسيس لبنان الكبير، بضم أربعة ألوية سورية إليه إلى جبل لبنان الماروني ـ الدرزي، وهو جبل تكلّله الثلوج، ومنها اسمه القديم من لون الثلج الأبيض، أي اللبن والحليب.
في الأربعينيات تلقت سورية، بلاد الشام، صدمة نكبة فلسطين، (سورية الجنوبية) وإقامة إسرائيل، وتبعتها في ستينيات القرن صدمة احتلال إسرائيل للجولان.. والآن، مطلع العقد الثاني من الألفية الثانية تداعيات «الربيع العربي» في سورية، والتدخلات العربية والإقليمية والدولية فيها وعليها.
في الجغرافية والسياسة والشعر يقولون: «دمشق»، لكن السوريين يقولون «الشام» أي «الشمال»، كما اليمن هي «اليمين» أو رحلة عرب الجزيرة صيفاً وشتاءً الشام هي بداية إمبراطورية العرب مع الخليفة معاوية، وهي آخر إمبراطورية آل عثمان. حافظت سورية على اسمها السرياني، وحافظ شعبها على عروبته التاريخية، وتطلعه إلى الوحدة العربية، ومقاومته لـ»التتريك»، ومعارضته لانتزاع الإسكندرون ولبنان وفلسطين من بلاد الشام. كل ما فعله حزب البعث هو كتاب تعريف على جنسية حامل الهوية السورية: «عربي سوري»، رغم استيعاب سورية لهجرة أرمنية وشركسية من خارجها، ولجوء فلسطين من داخل بلاد الشام.
كان هناك خط باصات يحمل اسم «أكراد» وهو حيّ على سفوح جبل قاسيون، واستيقظ الناس في دمشق على ذات صباح من العام 1939 على تبديل اسم باصات الخط إلى «ركن الدين» ربما نحتاً من اسم «صلاح الدين الأيوبي».
العراق وسورية ولبنان بلاد فسيفساء طوائفية ـ دينية ـ قومية باستثناء فلسطين قبل النكبة، لكن المسيحيين العرب في الإسكندرون ولبنان وسورية هم آباء العروبة قومياً وثقافياً، وحتى موارنة جبل لبنان جاؤوا إليه من شمال سورية، وهذا يشمل فسيفساء سكان الجزيرة السورية النهرية شرق الفرات ودجلة، ذات الغالبية العربية والأقلية الكردية، سواء في القامشلي والرقّة والحسكة ودير الزور.. إلخ، التي كانت منطقة نفوذ لجماعة «داعش» وصارت منطقة نفوذ لتحالف عشائر كردية ـ عربية تسمى (قوات سورية الديمقراطية ـ «قسد») ولعبت دوراً في تحريرها من «داعش» بدعم أميركي، وخوف تركي من تواصل أكرادها مع أكراد تركيا، وتطلعات «كردستان الكبرى»، بعد «سورية الكبرى»، و»إسرائيل الكبرى».
كل اللاعبين المتدخلين في سورية يدّعون غيرة على سيادتها، والجميع يدّعي مقاومة «الإرهاب» ويدعمه في الوقت ذاته، أو يتلاعب في المعارضات المتعارضة السورية. البعض مع النظام والبعض الآخر ضد النظام، إن في السر والخفاء، وإن علانية. في النتيجة الماثلة صار ثلث الشعب السوري إمّا لاجئاً خارج بلاده، وإمّا نازحاً داخلها.
لبعض المتدخّلين قوات في سورية، أو حلفاء لهم فيها، لكن لتركيا أن تتدخل بجيش نظامي متحالف مع ما كان «الجيش السوري الحر» المنشق الذي صار اسمه «الجيش الوطني السوري»، وأن يكون هدف التدخل هو إقامة حزام بطول 450 وعرض 30كم، لإسكان لاجئين إليها سوريين عرب فيه، مع إقامة ثلاث كليات جامعية تركية؟
هذا غزو صريح من دولة مجاورة، وأهدافه احتلال أرض، بذريعة مقاومة إرهاب كردي بدعم من قوات سورية منشقة وإرهابية، وحماية تركية لمنظمات إرهابية إسلامية في محافظة إدلب.
سبّب الغزو التدخّلي التركي خلافاً تركياً مع أميركا، وخلافاً داخل حلف «الناتو». لكنه سبّب ضعضعة لتحالف مصلحي ثلاثي: إيراني، روسي، تركي، وقد يسبب الغزو والتدخّل التركي خلافاً داخل «قسد» بين الأكراد والعرب حول طبيعة علاقاتها المستقبلية مع النظام السوري، وطبيعة النظام الفدرالي السوري الأمر الذي تعارضه دمشق رسمياً.
زمن الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، ثم معاهدة «سايكس ـ بيكو» لم تكن بلاد الشام على هذا التعقيد، لكن قائد «قوات فرنسا الحرّة»، الجنرال ديغول، جاء إلى سورية ولبنان، وقت الاحتلال النازي لفرنسا، وقال: «جئت إلى الشرق المعقّد بأفكار بسيطة».
دعم تركيا الأردوغانية لمنظمات الإرهاب في محافظة إدلب، ثم إقامة حزام تركي ضد الإرهاب الكردي، زاد من تعقيدات وضع بلاد كانت أول الإمبراطورية العربية، وآخر إمبراطورية آل عثمان.
حسن البطل