بقلم : جورج شاهين
لا يرغب مرجع قضائي كبير في مناقشة الجوانب القضائية من ملف قبرشمون، فهو الذي يراقب كل شاردة وواردة بدقة وتجرد، وإن تحدث بالقليل لا يعرف الى مَن يوجِّه اللوم ليحمّله مسؤولية ما حصل من إحراج للقضاء حتى أهلكه. فلا يقدّر حجم الأذى الذي لحق به إلّا أصحاب العلاقة والإختصاص. وإن خرق صمته، فله تصوّرٌ بسيط لم يُعتمد الى اليوم. لماذا؟
رغم احتفاظه بـ«صمت عميق» عما يجري في البلد وفي السلك القضائي، لا يتردد مرجع قضائي في التعبير عن رفضه للكثير ممّا يجري. ففي المواقع التي كان يشرف عليها ويديرها زملاء له من كل المراتب والمواقع، يعرف جيداً أدبياتهم وسلوكياتهم، فيحزن للبعض منهم ويرتاح لآخرين كثر. وهو يرغب في أن لا يكون للسياسة كلام في القضاء، فيرصد المخالفات بصمت ولا يبوح بها إلّا للمقربين منه. يدرك القاضي المتقاعد انّ هذا هو منطق الأمور، ولكنه لا يخفي حزنه وقلقه من أن يرى السياسة تقود القضاء في بعض المواقع. وفي ظل ما حصل، إن طلب اليه إجراء جدول مقارنة بين الماضي والحاضر فهو يعتقد أنّ البعض تجاوز الخطوط الحمر في السابق، أما اليوم فهناك مجال بعد لتطويق المخالفات المرتكبة.
وإن سُئل عمّا رافق أحداث «الأحد الدامي» في قبرشمون ينتفض. فهو يرى أنّ القضاء قام بواجباته في الساعات التي تلت ما حصل. وأحال المدعي العام التمييزي بالإنابة القاضي عماد قبلان الملف الى فرع المعلومات، واصدر الاستنابات القضائية لملاحقة المطلوبين وتسليمهم للمراجع المختصة، ولكن ما جرى لاحقاً لم يعد يُحتمل.
ويضيف: تبلّغت المراجع المعنية أنّ ما ارتكبه مَن تسلمتهم الضابطة العدلية في الأيام الأولى كانوا إما ممَّن أحرق دولاباً او تظاهر فساهم بقطع طريق، ولا علاقة لهم بما جرى من اطلاق نار أدّى الى سقوط ضحايا وجرحى. كان ذلك قبل أن يسلّم الحزب التقدمي الإشتراكي والأهالي إثنين، احدهما من المتورطين بإطلاق النار من ضمن لائحة أعدّتها المراجع الأمنية نتيجة الإستقصاءات التي أُجريت. ففرع المعلومات أنهى تحقيقاته في ما جرى دون أن يتسلّم المعنيون بالتحقيق ايّاً من «ابطال» العملية من مرافقي الوزير صالح الغريب.
وامام مسلسل العراقيل، التي حالت دون أن يتسلّم المحققون المطلوبين للتحقيق بدأت السياسة تفعل فعلها. فالقضاء الذي باشر التحقيقات مع الموقوفين أفرج عن بعضهم بعدما ثبت انّ ما ارتكبوه مجرد جنحة وأبقى بعضهم قيد التحقيق، ولكن الى متى؟. فقانون اصول المحاكمات الجزائية يحدد مهلاً للتوقيفات بأربعة ايام وقد تجاوزها القضاء اكثر من مرة. ولا ينسى المرجع القضائي أن يلفت الى الملاحظات التي بدأت تتسرّب من منظمات حقوق الإنسان التي تراقب ما يجري للتثبّت من احترام لبنان حقوق الإنسان. فماذا لو قالت هذه المنظمات كلمتها في أداء القضاء اليوم؟ وهل من المفيد أن نضع القضاء في هذا الموقع المهلك والمحرج؟ وكيف يمكن تجاوز ما حصل إن راجع ايُّ موقوف بلا وجه حق ايّاً من المراجع المعنية لإستعادة حقوقه؟
والى ذلك، يقول المرجع القضائي، كان يمكن لو تُرك الأمر للقضاء وحده، دون أن تتدخّل السياسة في ما جرى أن تحال الجريمة الى النيابة العامة الإستئنافية في جبل لبنان. فهي المرجع الأصلح والأجدى. فالمتورطون في الحادث معروفون وليس هناك ما هو غامض في كل ما حصل. ولو تمّ ذلك لكانت القاضية غادة عون قد احالت الحادث في اقل من نصف ساعة تلت وصول الملف اليها الى قاضي التحقيق في جبل لبنان. وهو الذي كان بإمكانه إنهاء مهمته في ايام ولكانت القضية حُسمت وصدرت الأحكام في اسابيع قليلة.
واضاف: الى هذه الآلية الأقصر، التي كان بالإمكان اللجوء اليها لو كان الفصل قائماً بين السلطة القضائية والسلطات الأخرى. ولكن بسبب التدخل السياسي حصل ما حصل ووقع الجدل حول الجهة التي يمكن إحالة القضية اليها. فالمجلس العدلي لم يكن فكرة سيّئة، كما بالنسبة الى المحكمة العسكرية رغم عدم توافر المقومات التي تسمح بذلك. لكن وإن حصل ذلك لأسباب سياسية لا تمت الى القضاء بصلة، فلدى هذه المحكمة القدرة متى تسلمت الملف ان تتنحى عنه اذا كانت غير ذات اختصاص فتحيله الى القضاء العادي او المجلس العدلي لا فرق. وان بقي بعض المتهمين متوارين عن الأنظار، كما يتخوف البعض اليوم يجزم بالقول: طالما انّ التحقيق صار مكتملاً، يمكن ان تصدر القرارات في حق «الفارين» غيابياً. ومتى تم تسليمهم يحاكمون على هذا الأساس او تعاد المحاكمة فتثبت التهم الموجهة اليهم او يصار الى تبرئتهم فليست هناك مشكلة قانونية او قضائية في الحالتين.
عند هذه المعطيات التي اشار اليها المرجع القضائي او تمناها، يقول جازما إن القضاء من اكبر ضحايا ما جرى حتى اليوم. فهو اصيب بنكسة حقيقية نتيجة المخالفات التي ارتكبت في حق الموقوفين حتى اليوم. ونتيجة عدم قدرة القضاء على التحرك أو المبادرة في ظل ما أنتجه التدخل السياسي في القضية. فهل هناك أسوأ من ان يقف القاضي اليوم عاجزاً عن الإفراج عن متهم إن ثبتت براءته، ولا يستطيع أن يقاضي موقوفاً مرتكباً، في ما الجميع يدركون انّ المرتكبين بمجملهم ما زالوا أحراراً بدل أن يكونوا وراء القضبان.