حازم صاغية
حزب «روسيا الموحّدة»، حزب الرئيس فلاديمير بوتين، نال نصف أصوات المقترعين الروس. لكنّ النصف الآخر لم يذهب إلى المعارضة، أيّة معارضة. لقد تقاسمتْه أحزاب تؤيّد كلّها السيّد الرئيس. هي قد تعترض على تفصيل هنا، وعلى نقص في الكفاءة عند وزير هناك، أو على تزوير طفيف في قلم اقتراع، إلاّ أنّها كلّها مُجمعة على أنّ فلاديمير بوتين هو وحده من تتجسّد فيه كرامة روسيا وصمودها في وجه خارج مُعادٍ.
الروس الذين لا يرون هذا الرأي، كالمنشقّ أليكساي نافالني، مُنعوا، على الطريقة الإيرانيّة، من المشاركة في الانتخابات. ذاك أنّ روسيا بوتين، التي ترفض «فرض القيم الغربيّة» على غير الغربيّين، باتت لا تجد ما يغري بالتقليد إلاّ قيم إيران الخمينيّة.
مسخرةٌ لا تملك إلاّ أن تذكّر بمسخرة «الديمقراطيّة الشعبيّة» التي اخترعتها الشيوعيّة السوفياتيّة لتحطيم الديمقراطيّة، وفي الوقت ذاته السيطرة على الشعب في بلدان أوروبا الوسطى.
لكنّ مسخرة الانتخابات في روسيا لا تكتمل بغير مسخرة الأحزاب والإيديولوجيّات سواء بسواء. الأحزاب لم تعد تعبّر عن اختلافات في وجهات النظر وفي المصالح، وهذا تعريف الأحزاب. في المقابل، كلّها باتت متّفقة على الأساسيّات، وليس هناك اليوم ما هو أكثر أساسيّة من الاصطفاف وراء الرئيس، فيما التسميات الآيديولوجيّة لهذه الأحزاب المتوافقة تتباين تبايُن الشيوعيّ والقوميّ والديمقراطيّ والليبراليّ. الوصف إذاً لا يصف الموصوف. الكلام لا يعني ما يُفترض أن يعنيه. فلاديمير جيرينوفسكي سبق له منذ 1989 أن أسّس المسخرة، مُستبقاً ظهور بوتين، حين سمّى حزبه القوميّ المتطرّف «الحزب الروسيّ الديمقراطيّ الليبراليّ».
واقع الحال أنّ الذين تقاسموا أصوات الروس في الانتخابات التي أجريت قبل أيّام هم كلّهم حزب واحد برؤوس كثيرة، أو بأحزاب كثيرة. أمّا الحزب الخفيّ الواحد فحزب القوميّة الشعبويّة وزعيمه الأوحد هو بوتين. على هذا النحو فقط تغدو الديمقراطيّة شيئاً نابعاً من «قيمنا» ومن «أصالتنا» وسبباً للوحدة بدل أن تكون باعثاً على التجزئة والتناحر!
السوريّون واللبنانيّون من أكثر الشعوب التي تتفهّم النموذج الروسيّ هذا.
هذان البلدان ليسا مثلين حصريّين لكنّهما مثلان نافران: فيهما يصطفّ وراء الرئيس السوريّ بشّار الأسد قوميٌّ عربيّ بعثيّ أو ناصريّ، وقوميّ سوريّ، وشيوعيّ عمّاليّ، وإسلاميّ من أتباع حسن نصر الله. الكلّ «إخوة» و«رفاق»، لا فرق بين واحدهم والآخر إلاّ بدرجة الولاء للسيّد القائد وأجهزته. أمّا الدعم الروسيّ والإيرانيّ للأسد فيتكفّل بإزالة ما قد يتبقّى من شكّ حول وجوب هذه الرابطة الأخويّة الصلبة والفردوسيّة.
ولا بأس، حرصاً على الرابطة إيّاها، بتصحيح التواريخ المغلوطة تبعاً لجاهليّة حديثة: فلا القوميّين السوريّين اغتالوا الضابط البعثيّ عدنان المالكي، ولا القوميّين العرب قتلوا القياديّ الشيوعيّ فرج الله الحلو أو الضابط القوميّ السوريّ غسّان جديد، ولا أنصار «حزب الله» صفّوا المثقّفين الشيوعيّين حسين مروّة وحسن حمدان... القاتل هو دائماً الإمبرياليّة والصهيونيّة والضحايا ضحاياهما حصراً. مَن يقول عكس هذا إمّا مستشرق لعين أو دارس على المستشرقين.
هكذا يغدو الدفاع عن الأفكار والدفاع عن السياسة محكومين بالدفاع عن الصدق والحقيقة. يصحّ هذا في روسيا وإيران، كما في لبنان وسوريّا.
لقد شمل خلطُ المعاني والازدراء بها جميعاً تعريفَ اليمين واليسار، والمحافظة والليبراليّة، والتديّن والعلمانيّة... أمّا ممارسو الخلط فنجحوا في غزو بعض أعرق الديمقراطيّات. نجد هذا مثلاً في «اليساريّ» الفرنسيّ جان لوك ميلونشون، كما نجده في «اليمينيّة» الفرنسيّة مارين لوبين. ذاك أنّ الأولويّة لم تعد تطال الموقف من الأفكار والمصالح. إنّها تطال الموقف من الخارج، ومن الهويّة التي يقال أنّ هذا الخارج يتهدّدها. وهناك دائماً زعيم تهفو له القلوب، كبوتين أو الأسد، يُنصّب حامياً لتلك الهويّة في مواجهة الخارج الذي هو دائماً مطّاط: يتّسع للإمبرياليّة والصهيونيّة مثلما يتّسع للعولمة والشركات متعدّدة الجنسيّة، وللاجئين والمهاجرين، وللراغبين في الحرّيّة أو في الاستقلال على أنواعهم.
أمّا الرهان على أن يتصدّى حزبيّون لإنقاذ أحزابهم، ولإنقاذ الأفكار التي آمنوا بها حين انتسبوا إلى تلك الأحزاب من الأكاذيب اللاحقة بها، فرهان في غير محلّه. ذاك أنّ التطبّع على الكذب غلب الطبع، مستعيناً بشبكات مصالح صغرى، وبتورّط في الدم هنا وهناك، وطبعاً بحرص على إبقاء الجماعة الحزبيّة على قيد الحياة بعد زوال مبرّراتها.
وفي ظلّ هذا التزوير المتمادي للأحزاب كما للأفكار لن تكون النتيجة سوى موت النقاش العامّ وانتفاخ الركود الفكريّ والثقافيّ وانتشاره على مساحات بلدان بأكملها.
فحين يكون النموذج الروسيّ أو النموذج الإيرانيّ موضعَ التقليد والاتّباع، يصعب أن تنتهي الأمور إلى غير ما تنتهي إليه: صفرٌ ينطح صفراً.