استقر رأى الهيئة المنظمة لمهرجان الجونة برئاسة عمرو منسى، على عدم الإشارة مباشرة إلى أسباب تدخل الرقابة فى اللحظات الأخيرة ومنعها عرض فيلم (آخر المعجزات) فى الافتتاح، رغم الإعلان عنه فى كل النوافذ الإعلامية بالداخل والخارج. إدارة الجونة اكتفت فقط بالتأكيد فى البيان الصادر عنها إلى استخدام تعبير مهذب (تعذر عرضه)، وهو ما يفتح الباب قطعا للعديد من أدوات الاستفهام والتعجب.
سوف يعرض بدلا منه الفيلم الكرواتى الحاصل هذا العام فى مايو الماضى على سعفة (كان) للفيلم القصير (الرجل الذى لم يستطع أن يبقى صامتا). من الممكن قطعا أن يتنبه مثلا الرقيب قبل ثوان من عرضه إلى أن الفيلم الكرواتى يشير للتطهير العرقى فى مطلع التسعينيات فى (البوسنة والهرسك)، ويعلو صوت مجددا من خارج الرقابة، يطالب بالمصادرة، لأنه لا يجوز مثلا أن نتناول التطهير العرقى والدينى فى فيلم سينمائى، وهو ما يتنافى قطعا مع الأديان، وتلك هى (أم المشاكل) فى الرقابة المصرية التى لم تصدر أى توضيح رسمى حتى كتابة هذه السطور يشير إلى موقفها أو يبرئ ساحتها من المصادرة.
الأبواب مفتوحة ومليئة بالألغاز لقرار منع العرض. لا أتصور أنه من الممكن أن يؤصد الباب أمام السؤال، الذى فرض نفسه. مهرجان مصرى قرر أن يفتح الباب وينفرج الستار عن الفعاليات بفيلم مصرى، يقول للعالم إن السينما المصرية (لسه بخير)، وهذه من الرسائل العظيمة التى ينبغى أن تحملها المهرجانات التى تقام على أرض المحروسة (ولكن تقول لمين)، الاختيارات المتسرعة التى أصبحنا نلجأ إليها فى الكثير من أمور الحياة، بدون أن نضع فى المعادلة، ظلال وتبعات تلك الاختيارات. المهرجان فى بيانه الأخير، كان من الممكن مثلا أن يلعبها (ع المكشوف) على طريقة المنتج الحاج أحمد السبكى، عندما قال إنه هو الذى قرر ألا يعرض فيلم (الملحد)، لأنه لا يزال فى المونتاج، ولكن اختارت إدارة المهرجان (الحل الرمادى) الذى لا يضعهم فى مواجهة مع الرقابة وفى نفس الوقت لا يعتبر نفسه مسؤولا عن تبييض وجه الرقابة أمام الرأى العام.
قناعتى هى إذا لم تستطع أن تقول كل الحقيقة، فلماذا تساهم مجانا فى ترويج كذبة؟. أتصور أن هذا هو الموقف الذى استقرت عليه إدارة (الجونة) فى مواجهة الأزمة، حافظت فقط على شعرة معاوية، حتى لا تثير حفيظة الرقابة المتحفظة والمتحفزة دوما.
هناك قرارات تثير أزمة أراها حقيقة بلا لزمة. أعلنت كثيرا أننى أرفض أساسا مبدأ المصادرة الذى صار عنوانا للعديد من القرارات داخل الرقابة، فهى ترفع شعار (لا تقربوا الشبهات). أى عمل فنى يحمل بصيصا ما أو هامشا ما أو حتى قراءة ما، على الفور وأخذا بالأحوط (الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح). لا يوجد رشيد يتدخل لإيقاف تلك المهازل التى يتابعها العالم؛ لأننا بصدد مهرجان له اسمه وعنوانه على الخريطة الدولية، وعندما نعلم أن الفيلم مستوحى من قصة قصيرة لنجيب محفوظ أعتقد أن ردود فعل (الأزمة بلا لزمة) تتفاقم.
قبل نحو أسبوع سألنى أحد الأصدقاء عن رأيى فى عرض فيلم روائى قصير فى افتتاح مهرجان (الجونة) الذى أصبح واحدة من أهم المنصات فى التسابق بين المهرجانات، قلت لا بأس خاصة أن الفيلم مأخوذ عن قصة (معجزة) لنجيب محفوظ فى مجموعة (خمارة القط الأسود) التى تحوى عددا من القصص القصيرة، التى سبق أن استوحى وحيد حامد منها فيلمه (نور العيون) إخراج حسين كمال.
الفيلم الجديد إخراج عبد الوهاب شوقى، الذى شارك فى كتابته مع مارك لطفى ولعب بطولته خالد كمال وأحمد صيام وعابد عنانى وغادة عادل. المخرج السودانى الدؤوب أمجد أبو العلا، كعادته يجيد الرهان على الأفلام الهامة وهكذا شارك فى الإنتاج.
شاهدت الفيلم مثنى وثلاث ورباع، ولم أجد لا فى اللقطات ولا بين اللقطات، ما يمكن أن يثير غدة المنع، ولن أتحدث بالتفاصيل إلا بعد عرضه على شاشات السينما فى مصر، لثقتى أن هذا هو الأقرب للمنطق، سيعرض قريبا فى مصر، الفيلم به مشاركات إنتاجية غير مصرية سيتاح له التواجد فى العديد من المهرجانات الدولية. وحتى لو ظلت الرقابة المصرية على موقفها، عندى أمل أن ينتصر صوت العقل فى بلادى، فالأحداث فى ستينيات القرن الماضى، وكان ذلك واضحا من خلال أغنية لأم كلثوم تشير إلى ذلك الزمن، كما أن فى المقهى، حيث يجرى القسط الأكبر من الحكاية، يستخدم التليفون الأسود الأرضى (أبو قرص).
فى الفيلم ترديد لأغنية لفريد الأطرش وشادية الدويتو الشهير (يا سلام على حبى وحبك/ ولا كان على بالى أحبك)، حيث يتحول فى الأداء إلى حالة من الذكر، يشارك فيه بطل الفيلم خالد كمال، وهو حقيقة ما يجرى حتى الآن، فى كل الموالد الشعبية يستخدم نغمة وإيقاعا وأحيانا كلمات لأغنية عاطفية شهيرة ويضيفون كلمة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، تحمل كل الحب والتقدير.
ربما هذا المشهد هو الذى أثار حفيظة الرقابة، أكرر ربما، فأنا لا أدرى قطعا حقيقة الأسباب، سبق مثلا للشيخ على جمعة مفتى الديار المصرية الأسبق، أن استمتع إلى أغنية (قولوله الحقيقة) بصوت عبد الحليم حافظ بعد أن استبدل كلماتها إلى (روحوله المدينة/ محمد نبينا)، اعتقد شيخنا الجليل أنها أصلا أغنية دينية رددها أولا العندليب فى مدح الرسول، واستحسنها ولم يعترض.
سوف تستمر فعاليات المهرجان وأتمنى أن تعرض كل الأفلام التى تم (جدولتها والإعلان عنها، وربنا يجعل كلامنا خفيف على الرقابة!!.