بقلم - عبد المنعم سعيد
الحرب الروسية الأوكرانية اقتربت من أسبوعها الخامس، عسكريا احتدمت الحرب وتصاعدت، روسيا دفعت المزيد من الوحدات العسكرية تحاصر المدن وتدفع فى اتجاه العاصمة «كييف»، تزايدت معدلات سقوط الضحايا والجرحى وإصابة المدنيين، ونقلت الكاميرات الشكل المألوف للمدن عندما يتولاها القصف من أبنية مهدمة، وشوارع متهالكة مليئة بالحفر التى نتجت عن قذف بالقنابل. قوافل اللاجئين الخارجين من «الممرات الآمنة» بذعرهم وخوفهم وحملهم الثقيل تعيد ذكريات قريبة ومفزعة جرت فى سوريا وأفغانستان وكشمير واليمن. الفارق أن ما يحدث يجرى فى أوروبا حيث ادعاء العقلانية والرشد التاريخى والنضج السياسى والتعلم من ذكريات حروب عالمية مليونية الضحايا، والخسائر ناس ومدن. كثيرون بحثوا عن العنصرية فى المشهد، وعما إذا كان بيض اللون وزرقاء العيون لهم تقدير خاص عن غيرهم من سمر الوجوه وسود العيون. المؤرخون والباحثون السياسيون والاجتماعيون، والمثقفون ومتابعو الفنون والحضارات سوف يجدون فيما يجرى فائضا من الأحداث والتقديرات والدروس التى تثقل على المستقبل. لكن اللحظة الراهنة تفرض نفسها بلا رحمة، كان السؤال الأول عما إذا كانت الحشود الروسية مجرد أداة من أدوات الضغط بحثا عن تحقيق أهداف سياسية وأمنية، وعما إذا كان رد الفعل الغربى بالنشر واسع النطاق للنية الروسية للغزو يمنعها من هذه الخطوة. ساعتها كان التهكم حاضرا، إن أجهزة المخابرات الغربية التى نقلت لنا نوايا موسكو كانت هى ذاتها من قبل التى نقلت لنا نوايا صدام حسين فى إنتاج القنابل الذرية. كان التخبط فى التقديرات كثيرا، وكان التاريخ يسير فى طريقه المحتوم أن وقت المراجعات لما جرى منذ انتهاء الحرب الباردة قد هل، وأن قيادة عملية المراجعة تعود إلى الصين وروسيا، كل على طريقته قد أتى. الطريقة الروسية كانت غزو أوكرانيا لأن الجغرافيا هى التى سوف تحسم المدى الذى يمكن أن تذهب له موسكو، وبعد القرم فإن ضم أوكرانيا أو الاستغناء عن متاعبه بالاكتفاء بالجمهوريات الانفصالية المتحدثة بالروسية سوف يضيف إلى الأمن الروسى، خاصة بعد أخذ التعهدات اللازمة من أوكرانيا ومن الغرب بمنع امتداد حلف الأطلنطى.
لم يكن الأمر فقط حركة القوات، ولا تجهيزات الغزو، وإنما كانت خلطة كبيرة من تاريخ العلاقات الأوكرانية الروسية وما كان فيها من اختلاط أحداث ونسب. وفى كل الأحوال تصدر جدول التبرير اختلال الأمن الروسى نتيجة الاقتراب من الحدود الروسية من قبل حلف الأطلنطى، وكأنه لم تكن دول البلطيق الأعضاء فى الحلف واللصيقة بالأراضى الروسية أمرا واقعا، ولا كانت اليابان على شاطئ المياه الآخر فى المحيط الهادى تقف فى مواجهة روسيا هى الأخرى بمعاهدة عسكرية مع واشنطن لا تختلف كثيرا عن معاهدة الحلف. ولا حتى كان مأخوذا فى الاعتبار أن العامل «الأرضى»، فى التكنولوجيا العسكرية التدميرية بعيدة المدى، قد بات واهنا على مر السنين. تقدير كل ذلك على الطرف والأطراف الأخرى كان عدوانا على بلد له سيادته التى يقرر بها مصيره، وفى واشنطن وعواصم حلف الأطلنطى المختلفة بدا الأمر انقضاضا للتاريخ بما ادعاه هتلر بالنسبة لإقليم السوديت، وما اختبره اليابانيون فى منشوريا، وإيطاليا فى الحبشة، وما تعدى ذلك من اختبارات صبر وتنازلات من أجل التهدئة، ومن اتفاقيات مثل ميونخ، ساد ظن أنها سوف تجلب السلام الأبدى، لكنها كانت تمهيدا لحرب عالمية ثانية.
المدهش لغير الغربيين فى أوروبا وأمريكا، والشرقيين فى روسيا والصين أن هذا القدر من الأحقاد والكراهية والتاريخ، الذى يبدو كما لو كان مساء اليوم السابق، ربما كان لصيقا بمناطق أخرى فى العالم، مثل الشرق الأوسط. فأهل الشرق والغرب ظهروا دائما بمظهر العاقلين والتنويريين الذين تربطهم العولمة والمصالح والحسابات المحسوبة، وفى أسوأ الأحوال الردع المتبادل. لكن فى هذه الحرب بدا الجميع عائدين إما إلى تقسيم العالم، إلى الذين يريدون الهيمنة والسيطرة على بقية شعوب العالم، والمدافعين عن أنفسهم، وفى تقسيم آخر بين الديمقراطيين والسلطويين، وكفى رد الفعل الغربى على الغزو الروسى لأوكرانيا الذى كان تجنب الوصول إلى الحرب النووية، وفى نفس الوقت اعتصار روسيا من خلال عقوبات اقتصادية جمدت نصف الاحتياطى النقدى الروسى البالغ أكثر من ٦٠٠ مليار دولار، ومعها بدأت عمليات الحصار الاقتصادى النقدى والمالى، مع انسحاب للشركات الأمريكية البالغة ٣٣٠ شركة من نوعية آبل ومايكروسوفت وأمازون وما فى حجمها وأهميتها، وبالطبع أشهرها «ماكدونالد».
الاعتصار الغربى لروسيا هدفه تركيع دولة عظمى وفقدان الثقة فى قيادتها من قبل الشعب الروسى، بقدر ما كان الهدف الروسى من غزو أوكرانيا تركيع أوكرانيا وفقدان الثقة فى حلف الأطلنطى الذى ترك دولة، لا شك فى ميولها الغربية، تقع تحت مخالب الدب الروسى. الصدام سرعان ما أخذ أبعادا كونية بما سببه من أزمات الطاقة والغذاء والمعادن والشحن والنقل وسلاسل التوريد والبورصات الدولية بفعل التضخم وموجات عاتية من الغلاء. كل ذلك حدث ومازالت «الجائحة» قائمة وتقبل فوق ذلك بموجة جديدة من العنف الصحى، ومع ذلك فإن الطرفين دخلا إلى معركة «عجم العود» أو القدرة على الصمود، أو من الذى سوف يصرخ أولا، ومن الذى سوف يتراجع فى البداية. لم تستبعد من هذه المواجهة ضغوط بث احتمالات الفناء النووى، ولا القيام بحظر جوى فوق أوكرانيا، ولا تحقيق الفرقة بين روسيا والصين أو بين أركان حلف الأطلنطى فى أوروبا وعبر الأطلنطى. كل الأدوات الدعائية وحتى الكتائب الإلكترونية وأشكال الحرب السيبرانية المختلفة كان مشروعا فى خلق دائم لوحش واقف على الجانب الآخر لا يجوز إلا إجباره على الركوع.
حسابات من سوف يصرخ أولا، ومن الذى سوف يضحك أخيرا فيها الكثير من التعقيد والتركيب وتأثير الزمن الذى بات يقاس بأسابيع من المواجهة. جانب من المقاربين يميل إلى أخذ أزمان الحروب «الأبدية» فى الحسبان، حيث انتظرت أفغانستان عشرين عاما، ولاتزال الحرب جارية فى العراق وسوريا بأشكال أخرى، ومن ثم فإن الليلة لاتزال فى بدايتها. جانب آخر يرى أن نتائج الأسابيع الأولى للحرب هى خسائر لكل الأطراف، ولا تقل الخسارة فى الداخل عنها فى الخارج. وبقدر ما أن خسائر أوكرانيا واضحة لا تخطئها عين، والخسائر الروسية الاقتصادية لا يستطيع أحد أن يخفيها، فإن خسائر العالم موجعة للجميع. وربما كان الخاسر الأكبر هو اتجاهات «العولمة» و«الاعتماد المتبادل» التى لم تمنع الحرب ولا تستطيع الآن، بعد كل ما جرى، أن ترسى أسسا للسلام، فبعد الذى جرى لا يوجد خيار إلا بين الحرب الباردة والأخرى الساخنة. الصين تبدو فائزة دون حرب ولا عقوبات، ولديها نوافذ وأبواب مع الجميع، لكنها أيضا خاسرة لنظام دولى وعالمى كانت هى فيه الرابح الأعظم بالأسواق والنفوذ، ولأنها تعلم ذلك فربما كانت هى التى تستطيع إخراج طرفى الصدام من أزمة من سوف يصرخ أولا؟.