الأزمات الدولية بحكم التعريف فيها الكثير من المسكوت عنه وبقدر أكثر من الضجيج والتضليل، خاصة حول الدوافع والتحركات والأهداف، التى قد تختلط فيها دواعى «الأمن القومى» والضرورات «الجيو سياسية» مع طموحات شخصية وتقاليد فى التوسع وتاريخ فى العنف.محاولة البحث عما هو حقيقى فيها الكثير من الصعوبة، خاصة عندما يجرى ذلك ولا تزال الرؤوس ساخنة، والدماء حارة، والعصر يلقى بطابعه على الحدث، بما فيه من سرعة وعالمية الاتصالات، وكلاهما فاق بمراحل ما عرفناه من حروب كبرى من حرب الخليج وحروب الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ فى أفغانستان والعراق.
تغير العالم كثيرًا فى كل شىء، من أول التسليح والتكنولوجيا فى عمومها، والنظم السياسية، وحالة العالم؛ وربما لم يبقَ ثابتًا إلا الساسة، فلم يكن بوتين جديدًا على الدنيا، ولا كان بايدن، ولا حتى زيلينسكى كان جديدًا على السياسة ولا المسرح بالطبع.
المسكوت عنه أولًا ظل أصل الصراع، وهل كان حقًا إمكانية توسع حلف الأطلنطى إلى الحدود الأوكرانية الروسية، ولكن إذا كان ذلك كذلك فالحقيقة هى أن حلف الأطلنطى متوسع بالفعل وملتصق بالحدود الروسية فى أكثر من منطقة، فمن ناحية- وانظر الخريطة- فإن دول البلطيق الثلاث- لاتفيا ولتوانيا وإستونيا- مجاورة لروسيا وبيلاروسيا، وجميعها مسلحة حتى الأسنان بأسلحة حلف الأطلنطى.
وهذا فى أقصى الغرب الروسى، ولكن أقصى الشرق السيبيرى حيث المحيط الهادى يواجه مباشرة اليابان، ذات معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة، والمماثلة لمعاهدة حلف الأطلنطى. والحقيقة هى أن روسيا تواجه تهديدات لأمنها القومى من داخلها، حيث يوجد أقوام غير مستقرين على العيش داخل الدولة الروسية مثل الشيشان والتتار.
.. خارج الحدود الروسية يوجد حزام من الجمهوريات التى لا تريد العودة إلى الاتحاد السوفيتى مرة أخرى، ولا تريد فى نفس الوقت من روسيا الاتحادية أن تنظر إلى الأقليات الروسية فى هذه الجمهوريات باعتبارها طابورًا خامسًا أو حصان طروادة، الذى سوف يأتى بالاتحاد السوفيتى مرة أخرى
وبغض النظر عن الاتجاه شبه الطبيعى لروسيا القيصرية أو الاتحاد السوفيتى إلى التوسع فى الجوار شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا أيضًا فى القطب الشمالى، فإن الحجم الهائل لروسيا فى سقف أوراسيا يثير قلقًا طبيعيًا لدى دول مثل أرمينيا والدول ذات الثقافة الإسلامية وحتى المسيحية غير الأرثوذكسية إزاء التهديد الروسى.
السؤال هو: هل يصير قلق روسيا إزاء حلف الأطلنطى قلقًا على كل أشكال التهديد الممكنة والمحتملة نتيجة الحجم الهائل للدولة الروسية، وتاريخها فى التوسع الأرضى، الذى شمل فى وقت من الأوقات شرق أوروبا وأفغانستان وكثيرًا من المناطق التى كانت تابعة للعالم التركى العثمانى؟.
المسكوت عنه ثانيًا أن الصياغة الأمريكية للأزمة والحرب على أنها «حرب بوتين» أو الصراع بين «الديمقراطية» و«السلطوية» فيها الكثير من التجاوز للواقع والوقائع التاريخية التى تلت انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى.
المرجح أن هذا التقسيم فى حد ذاته ربما كان دافعًا من دوافع الحرب، حيث بدا نازعًا الشرعية عن نظم حكم قائمة؛ وهو لا يشمل فى هذه الحالة ليس فقط روسيا، وإنما الصين أيضًا، ووفقًا للأرقام الحالية، غالبية دول العالم. اللقاء الافتراضى الأخير بين الرئيس بايدن والرئيس شاى جين بينج، دار تحت عنوان: «جهود لإدارة المنافسة بين البلدين ومناقشة تأثيرات حرب روسيا ضد أوكرانيا على الأمن الإقليمى (أوروبا) والعالمى».
وخلال هذه المباحثات فإن الموقف الأمريكى عاد به إلى «إعلان شنغهاى»، الذى أرسى دعائم العلاقات الأمريكية الصينية قبل ٥٠ عامًا.
وأكد الرئيس بايدن أن العلاقات تصل الآن إلى لحظة حاسمة سوف تشكل العالم فى القرن الواحد والعشرين؛ واستنادًا إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تسعى إلى «حرب باردة جديدة» مع الصين، ولا تسعى إلى تغيير النظام فى الصين. وتنشيط تحالفاتها لا يستهدف الصين. ولا تدعم الولايات المتحدة «استقلال تايوان»، وليست لدى واشنطن النية للسعى إلى صراع مع الصين.
مثل ذلك يمكنه أن يضع أساسًا لحالة من الوفاق السياسى بين واشنطن وبكين؛ ولكن فى الواقع فإن الإدارة الأمريكية لا تكف عن مطاردة الصين، كما تفعل مع روسيا فيما يخص أمورًا داخلية محضة بعضها يخص الأقليات وبعضها الآخر له علاقة بالمعارضة السياسية، وبالطبع التأكيد طوال الوقت على حقوق الإنسان.
ومن عجب أن الولايات المتحدة تدّعِى السعى لقيام نظام دولى قائم على قواعد؛ ولم يحدث فى القول الأمريكى استكماله إلى أن تكون هذه القواعد مستندة إلى القانون الدولى، الذى يمنع التدخل فى الشؤون الداخلية للدول.
مثل إصرار أمريكا، وهى التى لا تقبل بالمحكمة الجنائية الدولية، ولا حتى بالقواعد الدولية المستقرة منذ معاهدة ويستفاليا ١٦٤٨، على عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول باعتبار أن ذلك سوف يكون دومًا مدعاة للتنازع والصراع، وطالما أن أهل مكة أدْرَى بشعابها، فإن الأمور الداخلية للدول هى جزء من تطورها التاريخى وإدارة الحكم فيها.
المسكوت عنه ثالثًا جرى التصريح به فى منصات كثيرة ممتدة من الصحف وحتى وسائل التواصل الاجتماعى، والخاص بحالة النفاق السياسى والازدواجية الأخلاقية والقانونية المتعلقة بغزو أوكرانيا مقارنًا بغزو سوريا وفلسطين وسابقًا العراق وأفغانستان وحالات أخرى كثيرة.
والحقيقة أنه كثيرًا ما كان هذا الإفصاح يعنى السكوت ومحاولة للهروب من تقييم الغزو الحالى من قِبَل روسيا الاتحادية لأوكرانيا، والذى يقود إلى أزمة دولية تمس معظم دول العالم بالضرر نتيجة ما ترتب على الحرب من أزمات الطاقة والغذاء وتحقيق المزيد من الاضطراب فى سلاسل التوريد العالمية وتجاوز أزمة «كوفيد- ١٩» العميقة فى كل دول العالم.
القضية الكبرى ربما، والتى دوّى السكوت بشأنها، هى أن الكثير من قضايا العالم الأخرى غرقت فى بحر تركيز الانتباه الدولى على «حرب أوكرانيا»، فلم يعد الوباء على جدول الأعمال، رغم التنبيه المستمر إلى أن البلاء لم ينته، وأن البشرية بصدد مواجهة موجات جديدة منه.
صحيح أن هناك تراجعًا ملحوظًا فى إصابات مرض الكورونا، ولكن الثابت هو أن كل متحول جديد فى عائلة المرض يمهد لموجة واسعة أخرى. ولم تكن «الجائحة» وحدها التى ذهبت إلى ظلمات السكوت والتجاهل، وإنما بقية الأجندة العالمية المعروفة، من أول ظاهرة الاحتباس الحرارى إلى الاتجاه الانتشارى فيما يتعلق بالأسلحة النووية؛ وباختصار كل القضايا الكونية المرتبطة بتسليح الفضاء والقطب الشمالى، والتراجع الكبير فى حالة الاقتصاد الدولى.
كل هذه الحزمة الأخيرة من الموضوعات- التى جرى السكوت عنها أو تراجع الاهتمام بها- شكّلت حتى وقت قريب قائمة أعمال ظاهرة «العولمة»، وربما كان السكوت عنها راجعًا إلى نزعة التأكيد على الدولة القومية وهويتها واستقلالها عن الساحة الدولية. المعضلة فى هذا هى أن النظام العالمى القائم على التفاعلات العميقة فى الاقتصاد والقيم ومواجهة التحديات ربما يقود البشرية إلى مصير مظلم. ولعل ذلك هو المسكوت عنه الأعظم!.