هل يمكن وصف "صفقة التبادل " الأمريكية الإيرانية الأخيرة، بأنها صفقة غامضة، المجهول فيها أكثر من المعلوم، والسري أوسع في مداه ومنتهاه من الجهري؟
دعونا نحاجج القليل مما أعلن، ومفاده أن واشنطن وطهران ستقومان بالإفراج عن عدد من الرهائن لديهما بالتبادل، خمسة إيرانيين محتجزين في الولايات المتحدة، مقابل خمسة أمريكيين محتجزين في طهران.
إلى هنا تبدو المعادلة الحسابية بسيطة، وواضحة، وقد جرت بها المقادير من قبل بينهما، وكذا بين العديد من دول العالم من غير تعقيدات شكلية أو موضوعية.
على أن أول علامة في طريق الغموض تتمثل في المبلغ المالي الكبير الذي ستفرج عنه واشنطن من أرصدة إيران المحتجزة في الخارج، ويبلغ نحو عشرة مليارات دولار، الأمر الذي يدعو للتساؤل ..لماذا؟
هنا يكاد مشهد الصفقة الأمريكية – الإيرانية الأخيرة، يأخذ أبعادا مختلفة وماورائية، إذ تبدو طهران وكأنها حققت نصرا واضحا، عبر هذا الدفق المالي الكبير، والذي يكاد يكون بمثابة مكافأة لها على فعل الاحتجاز، إن لم يكن في الأمر جانب أخر خفي، وهو كذلك بالفعل .
تبدو العلاقات بين واشنطن وطهران، دافعا للحيرة عند العوام، لا سيما غير الراسخين في دروب ودهاليز حلف المصالح المشتركة الممتد من طهران مرورا بتل أبيب وصولا إلى واشنطن.
قبل إعلان نبأ الصفقة الغامضة بنحو أسبوع، كانت البحرية الأمريكية تعلن عن تعزيز تواجدها في منطقة الخليج العربي بنحو ثلاثة آلاف جندي، وعدد كبير من القطع البحرية النافذة والفاعلة ، لا سيما حين تدلهم الخطوب وتبقى الحرب على مرمى البصر ومن غير منظار.
بدت الذريعة العلنية للوجود الأمريكي، مواجهة التهديدات التي تمثلها إيران بالنسبة للملاحة البحرية في منطقة مهمة لمرور النفط والتجارة الدولية، وهو تبرير له وجاهته بالفعل ، وبخاصة في ضوء المحاولات الإيرانية المستمرة والمستقرة لخطف ناقلات نفط ، وقد وقعت مؤخرا عدة حوداث في هذا الإطار .
في الوقت ذاته لا يمكن للمرء أن يغفل المستوى المتقدم للغاية الذي وصل إليه برنامج تخصيب اليورانيوم الخاص ببرنامج إيران النووي، وفي غالب الأمر بلغ 90 % وهو مستوى يسمح بحياز القنبلة النووية، الحلم الإيراني الأكبر والأشهر.
يحار المرء من جديد من الموقف الأمريكي من هذا البرنامج المهدد لسلام المنطقة الخليجية والشرق الأوسط، سيما أنه متلاعب غير صادق ولا ثابت على موقف.
صباحا يخرج على العالم مسول أمريكي كبير، مدني تارة وعسكري تارة أخرى، ينذر ويحذر من أن الإيرانيين على بعد أسابيع وليس أشهر من امتلاك السلاح النووي.
وفي الغد أو بعد الغد، تموت الأخبار ، وتطفو غيرها على السطح، وتأتي أنباء تفيد بأن سلاح الدمار الشامل النووي لا يزال أمامه طريق طويل.
يصيح البيت الأبيض اليوم بأن كافة البدائل موضوعة على الطاولة لإنهاء برنامج إيران النووي، وأن واشنطن لن تسمح البتة بأن يمتلك الملالي سلاحا نوويا لتهديد الغريب والقريب دفعة واحدة، وفي اليوم التالي تخرج نغمة مغايرة تقطع بأن أمريكا تفضل الحل السلمي التفاوضي مع الإيرانيين.
يتساءل العالم عامة، وأهل الشرق الأوسط خاصة:"أي أمريكا يتوجب علينا أن نصدق ؟
هنا تبدو الحاجة للعارفين ببواطن الدولة الأمريكية، وللعقلية الحاكمة التي تعاني من الثنائية التقليدية، تلك الكارثة التي تحل عادة على رؤوس الأصدقاء قبل الأعداء، وحديث هنري كيسنجر قائم .." على أعداءأمريكا أن يهابوها، وعلى أصدقائها أن يخافوها أكثر ".
يتساءل المرء هل قامت واشنطن بالإفراج عن عشرة مليارات من الدولارات الإيرانية المحتجزة كنوع من الهدية المقدمة سلفا لإيران لإكمال برنامجها النووي، أم هدية للحرس الثوري مكافأة له لقيامه بالسطو على السفن السيارة في الخليج العربي؟.
وربما يتبقى هناك طرح آخر موصول بتعزيز فكرة خطف الرهائن، وسن سنة جديدة تفيد الخاطفين، إذ سيقدر لهم الحصول على مبالغ مليارية تبدل طباعهم وتغير أحوالهم .
تبدو التساؤلات وكأنها فصل من فصول مسرحية عبثية لصموئيل بيكيت، لكن تفكير بدماغ بارد يقودنا إلى عدة حقائق تحتاج إلى تفكيك مثير، يكشف عن حقيقة ما يجري ، وينفخ في بوق القرن منبها مما يجري في دهاليز القنوات الأمريكية – الإيرانية الفرعية..ماذا عن ذلك ؟
بداية يتأكد للقاصي والداني يوما تلو الآخر، صحة القول بوجود علاقة ما بين البلدين اللذين يظهران في المشهد وكأنها عدوان بالضرورة، لكن الأحداث تثبت أنهما غير ذلك، سيما أن الروايات التي تروجها واشنطن لا تثبت أمام أي قراءة عقلانية.
في هذا السياق يبقى القول بأن واشنطن ستضع قيودا وآليات على إنفاق الأموال المفرج عنها من الجانب الأمريكي ، وحتى لا تقوم طهران بإنفاقها في غير الأبواب الإنسانية والحياتية المخصصة لها ، قولا يسفه من عقول الراسخين في علم العلاقات الدولية، ويظهر تهافت المشهد بنوع خاص، حين القول بأن دولة ما، ستقوم بهذه الرقابة، والجميع يعرف أنها لا تملك من قرارها شيئا البتة، وأن الأمر في مبتدئه وخبره ملك للولايات المتحدة دفعة واحدة.
تاليا يبقى من الواضح جدا أن واشنطن تحاول قدر ما يمكنها تسكين الملف الإيراني ، أو تخديره إلى حين الانتهاء من الأزمة الروسية – الأوكرانية، ويذهب البعض إلى أن ما جرى من تحرير لأموال إيرانية، جاء كتخدير أو رشوة، تمنع حدوث صدام مع الأمريكيين في الوقت الحاضر، سيما أن واشنطن أدركت ما يمكن أن تفعله روسيا من وراء الكواليس، عبر دفع طهران لنصب فخ عسكري لواشنطن في الخليج العربي، يعطل دعمها لكييف، ويتيح لموسكو أن تنهي أزمتها التي طالت عسكريا مع الأوكرانيين.
في تغريدة له على موقع تويتر كتب ،مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي السابق ترامب يقول :"هذه أكبر فدية قدمناها في التاريخ ، يجب أن يعلم الشعب الأمريكي أن بايدن سمح لنا بدفع أكبر فدية في التاريخ لإيران، وأنه سيتم استخدام هذه الأموال لبناء طائرات بدون طيار وتمويل الإرهاب ".
في زمن الحادي عشر من سبتمبر 2001 تساءل الأميركيون :" لماذا يكرهوننا؟. هل سيتحول التساؤل اليوم إلى صيغة جديدة مفادها :" لماذا لم يعد العالم يثق في السياسيات الأميركية في الحل والترحال ؟