تعرضنا في المقالات السابقة لنشأة وحياة هيوارد كارتر، مكتشف مقبرة الفرعون الذهبى توت عنخ آمون عام ١٩٢٢. كذلك تتبعنا كل ملابسات وظروف الكشف عن كنوز الملك، والتى تجاوزت خمسة آلاف قطعة أثرية ظلت مخزنة داخل أصغر مقبرة ملكية في وادى الملوك بالأقصر لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. وكان من الواضح توتر العلاقة بين هيوارد كارتر والحكومة المصرية، حيث وصل الأمر إلى حد التقاضى في المحاكم المصرية كما ذكرنا في مقالنا السابق. بقى لنا أن نتعرض للموضوع الشائك واللغز، الذي لا يزال إلى يومنا هذا يمثل علامة استفهام كبيرة في علم المصريات، هذا الموضوع هو الخاص بالاتهامات الموجهة إلى كارتر بأنه قام بسرقة (أو الاحتفاظ لنفسه- كما يحلو لبعض الكُتاب الأجانب القول) بعض كنوز توت عنخ آمون!، وفى الحقيقة، ولكيلا نظلم صاحب أعظم كشف أثرى في التاريخ، لابد من عرض الموضوع بشىء من الحياد، خاصة أنه يمس إنسانًا مات منذ سنوات، ولا يملك حق الدفاع عن نفسه.
نبدأ بشكوك المصريين بأن هيوارد كارتر واللورد كارنارفون، ممول الكشف، قد دخلا إلى المقبرة وحدهما، وذلك قبل الافتتاح الرسمى للمقبرة. وإن كان هذا قد حدث فلابد أن يكون قد وقع في الفترة ما بين وصول كارنارفون إلى الأقصر وقبل الخامس من إبريل سنة ١٩٢٣، وهو تاريخ وفاته. وليس هناك دليل مادى واحد يمكنه تأكيد أو نفى حوادث الدخول خلسة إلى داخل مقبرة توت عنخ آمون. وقد نشرت إحدى الصحف المصرية، نقلًا عن ألفريد لوكاس، وهو أحد أعضاء فريق هيوارد كارتر، وكان المسؤول عن ترميم كنوز الملك توت، قوله إن كارتر دخل مرتين إلى داخل حجرة دفن الملك توت عنخ آمون، والتى كان مدخلها مغلقًا بالحجر والملاط. ليس هذا فقط، بل إن لوكاس أشار إلى أن كارتر قام بسد فتحة الدخول!، ومرة أخرى ليس هناك من سبيل إلى نفى أو تأكيد تلك الرواية، خاصة ونحن نعلم العداء الكبير بين الصحافة المصرية في ذلك الوقت وبين هيوارد كارتر، الذي صورته في صورة المحتل الإنجليزى المتغطرس، الذي يريد سلب المصريين كنوز أجدادهم.
تبقى واقعة واحدة حقيقية وموثقة، والتى أججت شكوك المصريين بأن هيوارد كارتر يسرق من كنوز الفرعون الذهبى توت عنخ آمون. تبدأ الواقعة عندما قامت الحكومة المصرية بتشكيل لجنة من كبار الموظفين المصريين من مصلحة الآثار ومن خارجها للتفتيش على أعمال هيوارد كارتر وفريقه، ودخلت اللجنة إلى المقبرة رقم ٤ بوادى الملوك، والتى كان كارتر وفريقه يستخدمونها في عملهم سواء صالة للطعام أو مخزنًا مؤقتًا للقطع الأثرية التي خرجت من مقبرة توت عنخ آمون. هذه المقبرة كان قد تم العمل في نحتها لتكون مقبرة الفرعون رمسيس الحادى عشر، لكن العمل بها لم ينته أبدًا. وهناك صورة شهيرة لكارتر وفريق العمل وهم يتناولون طعام الغداء داخل المقبرة، ويقوم على خدمتهم سفرجية من فندق الونتر بالاس. نعود إلى قصتنا مع لجنة التفتيش المصرية، التي دخلت إلى مخزن الآثار بالمقبرة رقم ٤ لتقوم بجرد القطع الموجودة بها، والتى خرجت من مقبرة توت عنخ آمون، ومقارنتها بما هو مسجل بالسجل الرسمى للمقبرة، وكذلك سجلات المكتشف هيوارد كارتر.
كانت الأمور تشير إلى أن كل شىء على ما يُرام، وأن القطع الموجودة مطابقة لأرقام التسجيل بالسجل الرسمى وكذلك سجلات المكتشف، إلى أن لاحظ أحد أعضاء اللجنة وجود صندوق صغير مُعَد للشحن إلى خارج البلاد، بمعنى أنه من نوعية صناديق الشحن المستخدمة في شحن البضائع بين الدول وبعضها في ذلك الوقت وليس من نوعية الصناديق التي توضع بها الآثار التي تسافر إلى القاهرة لتوضع بالمتحف المصرى.
نبه الموظف، الذي لا نعلم اسمه للأسف، رئيس لجنة التفتيش إلى وجود الصندوق المغلق، والمُعَد للشحن، والذى سأل كارتر عن محتوياته، فكان أن رد الأخير ببرود بأنه لا يتذكر ما بداخل الصندوق، عندها قامت اللجنة بفتح الصندوق الصغير ليفاجأ الجميع بوجود واحد من أجمل وأعظم كنوز توت عنخ آمون، وهو الرأس الجميل للملك توت على شكل زهرة لوتس متفتحة، وكل من الرأس والزهرة من الخشب المطلى بالجص، والملون بألوان زاهية. ويفسر العلماء هذا العمل الفنى النادر بأنه تجسيد لإله الصباح نفرتم يرتقى من زهرة لوتس، مبشرًا بصباح يوم جديد جميل، تشرق فيه الشمس على أعظم حضارة شهدها التاريخ.
بعدما أفاق أعضاء اللجنة من الذهول، واستردوا وعيهم، قاموا بوضع الرأس على طاولة، وأخذوا يتأملونه بكل حرص وعناية، بعدها قاموا بالتفتيش في السجلات الخاصة بكارتر، فلم يجدوا للأثر أي ذكر، ثم قاموا بمراجعة السجل الرسمى للمقتنيات، فلم يجدوا أيضًا للرأس أي ذكر أو رقم أو وصف!، بمعنى أن القطعة لا وجود لها بين كنوز المقبرة!.
وعندما هجم الموظفون على كارتر بالسؤال عن كيف وصلت هذه القطعة إلى هذا المكان؟، وكيف تم وضعها بصندوق شحن؟، وبدون أي أرقام تسجيل؟، رد مرة أخرى، ببروده المعهود، بأنه قد وجدها في الركام داخل الممر الهابط المؤدى إلى المقبرة!، فهل كان يقصد أن القطعة ليست من كنوز المقبرة؟، أم أنه كان يريد أن يعطيهم دليلًا على ادعائه أن المقبرة قد تمت سرقتها في العصور القديمة؟، أم أنه مجرد كلام لا معنى له ليبرر سبب عدم تسجيل القطعة ضمن مقتنيات المقبرة؟. المهم أن القطعة تم التحفظ عليها، وتسجيلها ضمن المقتنيات، لكنها أكدت شكوك المصريين أن السيد كارتر يسرق من كنوز توت عنخ آمون.
حادثة أخرى لا تزال تمثل لغزًا محيِّرًا، وهى الخاصة برأس مومياء الملك توت نفسه!، فالصور التي التقطها هارى برتون، المصور الرسمى لكنوز المقبرة، تؤكد أن المحنطين وضعوا على رأس الملك رداء رأس، أو طاقية بالعامية، ربما تكون من خرزات ذهبية أو أي مواد نفيسة أخرى، وذلك قبل وضع القناع الذهبى على الرأس. وللأسف، فإن هذا الأثر ليس موجودًا بين كنوز المقبرة، ولا نعرف أين اختفت طاقية الملك توت!.
لم تنته الحكايات والشائعات بعد وفاة كارتر واستقرار كنز الفرعون الذهبى في المتحف المصرى بالقاهرة، لكنها كانت تتوارى لسنوات، ثم لا تلبث أن تظهر من جديد.
في عام ٢٠١٠، حين كنت الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، جاءتنى رسالة من توماس كامبل، مدير متحف المتروبوليتان، يخبرنى بأن اثنين من أمناء القسم المصرى بالمتحف قاما بدراسة مجموعة من ١٩ قطعة أثرية صغيرة بمخازن المتحف، واستطاعا تأكيد ارتباط تلك القطع بهيوارد كارتر ومقتنيات توت عنخ آمون!. تحصل المتروبوليتان على بعضها من ابنة أخت هيوارد كارتر بعد وفاته في ١٩٣٩، وبعدما اطّلع المتحف في ذلك الوقت على وصية كارتر، واطمأن إلى أن ابنة أخته تحتفظ بهذه القطع بشكل رسمى. كذلك حصل المتحف على الجزء الآخر من القطع بعدما تم تسليم كل مقتنيات استراحة كارتر بالأقصر إلى بعثة المتروبوليتان بالأقصر، خاصة أن هارى برتون، عضو فريق كارتر السابق، هو المصور الرسمى لمتحف المتروبوليتان. وبعدما اكتشف المتحف المصرى بالقاهرة وجود تلك القطع الأثرية في حيازة كارتر باستراحته بالأقصر، طالب المتروبوليتان بردها في ذلك الوقت، لكن وفاة هارى برتون في عام ١٩٤٠ أوقفت المفاوضات، وللأسف سافرت القطع إلى أمريكا لتوضع بمخازن المتروبوليتان مع ما تم شراؤه سابقًا من ابنة أخت كارتر.
عرضت الموضوع على فاروق حسنى، وزير الثقافة في ذلك الوقت، ورئيس المجلس الأعلى للآثار، واتفقنا على حتمية عودة القطع الأثرية إلى مصر. وبدأت المفاوضات مع توماس كامبل، وأسجل له مساندته للمطلب المصرى، واتفقنا على الآتى: أولًا: نقوم بنشر القصة في مؤتمر صحفى مشترك، ونعلن للعالم أن الـ١٩ قطعة، التي ظلت مختفية منذ الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون، ستعود مرة أخرى إلى مصر، بعد أن يتم عرضها مؤقتًا في معرض الفرعون الذهبى توت عنخ آمون، والذى كان بالمصادفة موجودًا بقاعة عرض بميدان التايمز بنيويورك، على بُعد خطوات من متحف المتروبوليتان، ويستمر عرض القطع حتى شهر يناير ٢٠١١، بعدها تعود لتُعرض في معرض خاص بمتحف المتروبوليتان حتى يونيو ٢٠١١، لتعود بعدها إلى وطنها مصر في يوليو ٢٠١١، وهو ما حدث بالفعل، رغم كل ما مرت به مصر خلال تلك الفترة العصيبة، وإلى الآن لا يعرف المصريون ما حدث من قصص أغرب من الخيال مع آثارنا سواء بالداخل أو الخارج خلال أحداث يناير ٢٠١١ وما تبعها، ولكن تلك قصة أخرى نرويها للتاريخ فيما بعد.
أخيرًا في شهر أغسطس الماضى، فجرت جريدة الجارديان موضوع هيوارد كارتر وسرقاته من كنوز المقبرة، والغريب أن المقال الذي تم نشره يميل إلى جعل شائعات قيام كارتر بالسرقة من كنوز الملك حقائق لا تقبل الشك!، فهل نشر المقال له علاقة بالتوقيت، ونحن على أعتاب الاحتفال بأول مئوية تمر على كشف مقبرة توت عنخ آمون، أعظم إنجاز لهيوارد كارتر؟، هل من المفروض علينا الآن أن نشير إلى هيوارد كارتر كحرامى آثار إلى جانب كونه مكتشف آثار؟.
يدور المقال حول رسالة إلى هيوارد كارتر من السير ألان جاردنر، عالِم اللغة المصرية القديمة الشهير، أحد أعضاء فريق هيوارد كارتر، وكانت مهمته القيام بترجمة النصوص الهيروغليفية التي عُثر عليها مكتوبة على كنوز توت، وكذلك على جدران حجرة الدفن. والرسالة يمكن تصنيفها بأنها رسالة لوم وعتاب من جاردنر إلى كارتر لكون الأخير وضعه في موقف محرج للغاية أمام رينالد إنجلباخ، عالم الآثار الإنجليزى، الذي قام بتأسيس السجل العام لآثار المتحف المصرى بالقاهرة عندما كان يتولى إدارة المتحف حتى عام ١٩٤١.
والقصة أن كارتر أهدى جاردنر تميمة أثرية صغيرة، مؤكدًا له أنها ليست من مقبرة توت عنخ آمون. لكن حدث أن عرضها جاردنر على صديقه «إنجلباخ»، الذي أكد له أن التميمة صُنعت من نفس القالب الذي صُنعت به تمائم مماثلة بمقبرة توت عنخ آمون، وأن ما بيده هو تميمة من تمائم توت!، شعر جاردنر بالحرج الشديد، وأرسل إلى كارتر يعاتبه ويقول ضمن رسالته: «إننى آسف بشدة لكونى وُضعت في موقف محرج للغاية». لكنه أضاف: «بطبيعة الحال لم أخبر (إنجلباخ) بأننى حصلت على التميمة منك!».
ويشير مقال الجارديان إلى أن الرسالة سيتم نشرها في كتاب جديد لعالِم الآثار، بوب براير، ضمن رسائل أخرى لم تُنشر من قبل، تحت عنوان: «توت عنخ آمون والمقبرة التي غيّرت العالم». وإلى أن يصدر الكتاب، وإلى أن يتم الكشف عن جوانب أخرى وأسرار جديدة عن الكشف المذهل، علينا أن نبحث في أوراقنا وفيما لدينا من آثار وما ظهر من ادعاءات لكثير من الناس الذين يعرضون آثارًا، ويقولون إنها من مقبرة توت عنخ آمون، وبعضهم يقول إنه أو عائلته حصلوا عليها من هيوارد كارتر نفسه!، وبالطبع حدث ذلك كله بعد موت كارتر ودفن أسراره معه.
قريبًا، تحتفل مصر بافتتاح درة متاحف العالم وأعظمها- المتحف المصرى الكبير- وهو الحدث الذي ينتظره الملايين من الناس حول العالم لكى يروا كيف هو البيت الجديد لكنوز الفرعون الذهبى توت عنخ آمون