من أجمل الشهور التى أعتز بها شهر رمضان المبارك؛ أستمتع بكل ما فيه من عبادات الصوم وصلاة التراويح؛ وعادات اجتماعية نشأت عليها منذ الصغر، سواء لَمّة العيلة أو صحبة الأصدقاء، وبعضهم لا أقابله سوى خلال ذلك الشهر الكريم لظروف كل منّا!.
والغريب أن شهر رمضان هو من الشهور التى أواظب فيها على العمل وبكل جدية؛ أترك منزلى فى التاسعة صباحًا متوجهًا إلى مكتبى، وهناك أعمل طوال النهار حتى الثالثة ظهرًا، وبعد ذلك أذهب لممارسة الرياضة لمدة ساعة كاملة، بعدها أعود إلى المنزل لقراءة القرآن الكريم حتى موعد الإفطار. وبعد الإفطار أستمتع بمشاهدة الإعلانات، أقصد المسلسلات، وفى العاشرة مساءً أتوجه للنوم، وبدون سحور.
بالطبع يحدث فى أيام كثيرة خلال الشهر الكريم، وخاصة فى نهاية الأسبوع، أن أقوم بالخروج لمشاهدة المسرح أو التوجه لسيدنا الحسين. وربما يعتقد بعض الناس أن عملى بالتاريخ والآثار الفرعونية والاكتشافات قد شغل كل وقتى، وأن الأهم لى هو الكشف عن حياة قدماء المصريين، وبالتالى فإن اهتماماتى بعيدة تمامًا عن مثل تلك الأمور، وهذه فكرة خاطئة عن علماء تاريخ وآثار الحضارات القديمة بصفة عامة، وعنى أنا شخصيًّا بصفة خاصة، بل أؤمن أن هذه الطائفة من الناس هم أكثر البشر إحساسًا بقدرة مبدع الكون والخالق العظيم، الذى نرى قدرته وبديع خلقه فى كل مفردات الكون من حولنا، ولأهمية ذلك العلم- علم الآثار- دعانا المولى عز وجل فى كتابه الكريم إلى أن نسير فى الأرض وأن نتدبر فى الماضى.
ويأتينا شهر رمضان، وهو أطول أعياد المسلمين، بل أطول عيد فى العالم كله، يستمر ثلاثين يومًا، وإن قلَّ يصبح ٢٩ يومًا فقط. ولأنه شهر مبارك، فإنه ينتهى ليبدأ عيد الفطر المبارك، وبذلك يكون رمضان عيدًا يليه عيد، وبداخله عيد، وهو العشر الأواخر من رمضان، التى لها مكانة خاصة فى نفوس المسلمين فى كل بقاع الأرض، حيث يتتبعون فيها ليلة القدر، التى أُنزل فيها القرآن. وروحانيات هذا الشهر الكريم تتعدى كل وصف، ففيه يتغير الناس وتسود بينهم الرحمة والمودة ونرى نفوسًا يملؤها السلم والحب، هل هو الانقطاع عن الطعام والشراب، أم أنها نفحات الشهر الكريم وبركة الخالق على عباده؟!.
ورمضان فى مصر له مذاق مختلف تمامًا عن رمضان فى أى بلد آخر، ففى هذا الشهر الكريم يتحول المصريون جميعًا إلى عائلة واحدة، لا تعرف فيها القبطى من المسلم، وأول دعوة تلقيتها على الإفطار كانت من المصرى العزيز منير فخرى عبدالنور، الذى يُعتبر من المصريين الوطنيين الذين يعشقون مصر، وقد قام بدور وطنى كبير سواء وهو فى جبهة المعارضة من خلال حزب الوفد أو عندما تولى وزارة السياحة ووزارة التجارة، وكذلك من الصديق منير غبور، الذى يُقيم مائدة إفطار سنوية يجمع فيها المسلمين والأقباط، ويُعتبر من أهم الأقباط الذين يحافظون على التراث القبطى، وقام بترميم منطقة شجرة مريم بالمطرية، وتمويل فيلم عالمى عن رحلة العائلة المقدسة، وكذلك أوبرا عن هذه الرحلة العظيمة.
وهناك خمس محطات فى حياتى، قضيت فى كل منها هذا الشهر الكريم، وتعلمت أشياء كثيرة أثرت فى حياتى، أهمها الحب والتسامح. وأول محطة كانت فى القرية التى نشأت فيها وقضيت فيها سنوات طويلة أتمتع بهذا الشهر الكريم، حيث تعلمت الكثير من الفضائل خلالها. والمحطة الثانية هى تلك السنوات الأربع التى قضيتها فى مدينة الإسكندرية. والمحطة الثالثة عندما تسلمت عملى فى مصلحة الآثار مفتشًا للآثار، وكنت أعمل فى حفائر كوم أبللو بمحافظة البحيرة، وقضيت شهور رمضان بالقاهرة. والمحطة الرابعة هى المحطة التى سافرت فيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمدة سبع سنوات طالبًا فى جامعة بنسلفانيا. والمحطة الأخيرة هى المحطة التى أعيشها اليوم مع عائلتى فى مدينة القاهرة.
أما عن المحطة الأولى فهى قرية العبيدية بمركز فارسكور بمحافظة دمياط، وقد وُلدت فى هذه القرية. وقد كان والدى يعتنى بى بصفة خاصة، لكونى الابن الأول له، لذلك خلال شهر رمضان كان يحرص على تعليمى القرآن الكريم فى كُتاب الشيخ يونس. وبعد تناول الإفطار، كنت أذهب معه إلى صلاة العشاء والتراويح، وبعدها نذهب إلى الشيخ الدسوقى، الذى كان يسرد لنا قصص سيف بن ذى يزن وعنترة بن شداد وغيرها من قصص البطولة. كانت الكهرباء والتليفزيون لم يصلا إلى القرية بعد، ولذلك كنا نحب أن نسمع ألف ليلة وليلة فى الراديو، وكنت أتقابل مع قرنائى من الأطفال لنذهب إلى دكان خالى شريف، حيث الراديو، لنستمع إلى صوت الفنانة العظيمة الراحلة زوزو نبيل وهى تحكى قصص ألف ليلة وليلة.
وفى شهر رمضان كنا نقوم بعمل فصول مسرحية ونمثلها لأهالى القرية، وكان ذلك يتم فى حارة الجامع، وكان فى البلد مخرج عبقرى، اسمه محمد الزهيرى، وكانت من أهم المسرحيات التى قمنا بها مسرحية محمد العبدلله، وهى عن كفاح شعب فلسطين ضد إسرائيل، وكنت أقوم بدور البطولة، وقبيل عيد الفطر المبارك كان يُخرج لنا مسرحيات كوميدية. وكانت القراءة أيضًا من أهم ما نقوم به فى شهر رمضان الكريم، وكان يوجد فى البلدة اثنان من المثقفين، هما صبرى القزاز ومحمد حافظ البدوى، وكان لدى كل واحد منهما مكتبة بها أغلب الكتب والروايات، التى كتبها توفيق الحكيم والعقاد ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس ومحمد فريد
أبوحديد ونجيب محفوظ وغيرهم من الكُتاب، بالإضافة إلى الروايات المترجمة، وكنا نستعير منهما الروايات والكتب بإيصالات مُوقَّعة. وكنت أهوى كرة القدم، ولذلك كنا نُقيم دورات رياضية بين القرى المجاورة،
وغالبًا ما كنا نكسب أغلب الدورات، وكنا جميعًا أهلاوية، وكانوا يطلقون علىَّ صالح سليم العبيدية. ولم يكن فى البلد غير واحد زملكاوى، وهو الأستاذ أحمد خفاجى. وكان لأذان المغرب فى رمضان مذاق خاص.
والمحطة الثانية عندما ذهبت إلى الإسكندرية، وأنا فى سن السادسة عشرة، وذلك للدراسة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية. وقد كان محل سكنى فى المدينة الجامعية، ولكن كنا يوميًّا نفطر مع زملائنا، إما فى مطاعم بمحطة الرمل أو داخل منازل الأصدقاء، وبعد ذلك كنا نسهر على المقاهى حتى ساعة السحور، وأيضًا كنا ندخل السينما يوميًّا، وإذا كان هناك مسرح يكون جميلًا لأننا نسهر حتى الصباح، وكان لجو الإسكندرية مذاق خاص فى شهر رمضان.
أما المحطة الثالثة فهى القاهرة أثناء عملى فى حفائر كوم أبللو، وبعد ذلك عندما توليت العمل مفتشًا لآثار الهرم، وهذه الأيام بلا شك لا تُنسى لأننى كنت أذهب يوميًّا مع الأصدقاء للصلاة فى مسجد سيدنا الحسين، وبعد ذلك نفطر فى أحد المطاعم الشعبية مع الناس، ونستمر فى حى الحسين حتى نصلى العشاء، وكنا نذهب للسهر فى البيوت الإسلامية، التى تُقام بها ندوات ثقافية وفنون وغناء ومسرح. وكان كل يوم له طعم مختلف، وكنا نتجول فى شارع المعز ومنطقة باب زويلة، وهذه الأيام خلال شهر رمضان هى التى ساعدتنى لأعرف معلومات عن الآثار الإسلامية والمنازل القديمة والمساجد. وقد أفادنى هذا كثيرًا عندما توليت مسؤولية العمل بالمجلس الأعلى للآثار، وكانت فرصة لأن أعمل إلى جوار الفنان فاروق حسنى، وزير الثقافة، فى ترميم شارع المعز وباب زويلة والمساجد القديمة، وتُعتبر هذه الفترة هى الفترة الذهبية للآثار الإسلامية.
أما المحطة الرابعة فهى أقل المحطات متعة بالنسبة لشهر رمضان، حيث إننى قضيت سبع سنوات فى مدينة فيلادلفيا، ولذلك لم تكن للصيام متعة مثل الموجودة فى مصر، ولكن يظل المسلمون يقيمون الصلاة، وكان هناك مسجد داخل الجامعة نصلى فيه صلاة الجمعة، وكان هناك اتحاد للطلاب المصريين، وكان لكل مدينة فرع للاتحاد، تولى مسؤوليته مدة طويلة د. النجار، وبعد ذلك توليت مسؤوليته.
واتسع المجال لكى نتعرف على المهاجرين المصريين، وكثيرًا ما التقينا على الإفطار سواء بالطلاب الدارسين أو المهاجرين المصريين، وخلال هذه الفترة جاء إليه العديد من الفرق الشعبية والفنية، ومن أهمها الفرقة القومية للفنون الشعبية، وقامت بعرض مبهر للأمريكان والمصريين.
أما المحطة الأخيرة التى أعيش فيها الآن فأنا أيضًا أعتبرها فى مكانة ومتعة المحطة الأولى، وهناك الذين يعتبرون شهر رمضان للنوم والعبادة فقط، وهذا خطأ كبير، وللأسف هناك بعض الأجانب الذين لا يحبذون الحضور إلى مصر فى شهر رمضان ظنًّا منهم أن المصريين لا يعملون فى رمضان. وهناك مَن يأتى ليتفاعل مع المصريين، ويعيش تجربة مختلفة. كل عام وأنتم بخير ومصر، البلد الطيب، بخير.