بقلم: الدكتور ناصيف حتّي*
انسداد الأفق أمام تحقيق الأهداف الإسرائيلية من الحرب على غزة بعد أشهر ثلاثة ونيف من الحرب المدمرة التى تشنها القوات الإسرائيلية ضد القطاع أدت إلى انفجار الخلافات والتناقضات ضمن كل من المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية وبينهما أيضا. من جهة برزت انتقادات لقادة كبار فى الجيش قوامها أن إسرائيل غير قادرة على تحقيق أهدافها ورد الناطق باسم المؤسسة العسكرية، مصرحا أن هذا الكلام لا يمثل الموقف الرسمى للجيش. يظهر ذلك حالة الارتباك فيما يتعلق بتحديد أهداف الحرب واستراتيجية وقدرة تحقيق تلك الأهداف. كما انفجر الخلاف فى حكومة الحرب أو المجلس الخماسى لإدارة الحرب مما يهدد بشل دور هذه الحكومة المصغرة المعنية بإدارة الحرب. إن مظاهر هذا الخلاف المستفحل والذى يعكس الاختلافات المتزايدة فى الجسم السياسى والحزبى الإسرائيلى، الدعوة لإسقاط نتنياهو وتشكيل حكومة انتقالية لفترة عام بقيادة الجنرال أيزنكوت العضو فى حزب معسكر الدولة الذى يتزعمه بينى جانتس والذى تزداد شعبيته يوميا على حساب حزب الليكود الذى يتزعمه نتنياهو. أيزنكوت الذى رفض رئاسة الحكومة فى هذه الشروط ولالتزامه بموقف حزبه دعا، كما حزبه، إلى إجراء انتخابات مبكرة لتغيير الحكومة. يعكس ذلك ازدياد الفجوة فى المواقف وفى مقاربة الحرب الدائرة بين أطراف المؤسسة السياسية التى يطغى عليها بشكل شبه كلى أحزاب اليمين الإسرائيلى الدينى والتقليدى. وفى السياق نفسه تظهر الخلافات المتزايدة بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت حول إدارة الحرب، وتحميل الأول مسئولية الفشل للجيش.
تستفحل الخلافات بقدر ما يتكرس الانسداد بشأن تحقيق الأهداف الإلغائية التى رفعتها الحكومة فيما يتعلق بحركة حماس بشكل خاص والتغيير الكلى للوضع فى غزة بشكلٍ عام تحت عنوان التهجير الطوعى، وهو التهجير القسرى من خلال العمل لفرض الظروف لذلك، والسيطرة على غزة بشكل أشمل. نتنياهو كان واضحا فى رده على دعوة الرئيس الأمريكى لحل الدولتين. الحل الذى هو عنوان أو شعار يلوح به بين الحين والآخر، دون أى تصور فعلى وعملى للوصول إلى تحقيق هذا الهدف، فيما تستمر السياسة الإسرائيلية فى نسف الأسس على الأرض التى يفترض أن يقوم عليها هذا الحل. نتنياهو أعلن مرارا عن موقف المؤسسة السياسية الإسرائيلية بجميع أطيافها بهذا الخصوص: لا دولة فلسطينية، لا بل إن إسرائيل تود السيطرة الأمنية الكاملة على غزة بعد القضاء على حماس حماية للأمن الإسرائيلى. والجدير بالذكر أن الحديث عاد مجددا عن إعادة الاستيطان إلى غزة خدمة لهذه الأهداف الأمنية الاستراتيجية من المنظور الإسرائيلى. ويقول الكاتب والمؤرخ الإسرائيلى المعروف بمواقفه المؤيدة للسلام، شلومو ساند فى هذا الخصوص، إن هدف إسرائيل هو جعل غزة غير صالحة للسكن. فالتخلص من الديمغرافيا الضاغطة يساهم فى السيطرة على الجغرافيا الهامة فى استراتيجية الأمن الإسرائيلى بشكل أفضل.
ما زال سقف الأهداف الإسرائيلية مرتفعا بشكل كبير وغير قابل للتحقيق فى غزة. الأمر الذى يعزز استمرار الحرب ضمن أفق مفتوح. وقد بدأت إسرائيل بالمرحلة الثالثة من حربها بعد مرحلتى التدمير المكثف والاجتياح وهى مرحلة العمليات المركزة أو ما يعرف بالضربات الجراحية والعمل على الفصل بين شمال القطاع من جهة ووسطه وجنوبه من جهة أخرى، بغية السيطرة الكلية على الشمال. وعلى صعيد آخر يزداد الضم الصامت للضفة الغربية، كما تصف الوضع السلطة الفلسطينية، من خلال تسريع عملية تهويد الجغرافيا والديمغرافيا فى تلك المنطقة استكمالا لتحقيق قيام إسرائيل الكبرى من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. ويتواكب ذلك مع ازدياد «حماوة» الحرب الدائرة فى الجنوب اللبنانى بسبب الترابط الوثيق القائم بين الجبهتين الغزاوية واللبنانية، الأمر الذى يزيد من تعقيدات النزاع على الجبهة الأخيرة ومن صعوبة، وليس بالطبع استحالة، التوصل إلى تفاهمات ناظمة لقواعد اشتباك جديدة، فى ظل الأهداف العالية السقف التى تطرح، مع عدم الاستبعاد الكلى لمخاطر الانزلاق نحو حرب مفتوحة إذا استمرت الأمور على ما هى عليه. حرب تسقط قواعد الاشتباك القائمة والمستمرة والتصعيد المتوازن فى إطارها مع بدايات الخروج الإسرائيلى عن تلك القواعد مع اغتيال القيادى فى حماس صالح العارورى فى الضاحية الجنوبية لبيروت. تفاهمات جديدة يمكن أن تتبلور مع الوقت لوقف القتال تؤسس لقواعد اشتباك جديدة، يرى الكثيرون أن الشرط الضرورى وغير الكافى بالطبع للتوصل إليها يكمن فى وقف الحرب على غزة.
• • •
كل المؤشرات تدل على أن الحرب مستمرة ولو قد تشهد تصعيدا أو تخفيضا مع الوقت وهدن استراحة، ومعها أيضا الحروب بالوكالة: حروب الإسناد والرسائل المتبادلة والضغوطات الجارية من العراق إلى اليمن إلى البحر الأحمر إلى سوريا بدرجات وأشكال مختلفة.
شرط الخروج من حالة الحرب فرض وقف إطلاق النار. نقول فرض ذلك لأن إسرائيل ترفض هذا الأمر وعلى الأطراف الدولية المعنية بالاستقرار فى المنطقة والقادرة بسبب قدراتها ومصالحها وعلاقاتها أن تفرض ذلك على إسرائيل وتعيد إحياء مسار السلام على أساس حل الدولتين. ليس ذلك بالأمر السهل ولكنه ليس بالأمر المستحيل. المطلوب ليس إحياء مسار أهداف غامضة وفضفاضة وقابلة لتعريفات وأهداف مختلفة ومتناقضة كما شهدنا فى الماضى، بل تحديد الهدف النهائى (حل الدولتين) وفق قرارات الشرعية الدولية والالتزام به ورعاية ومواكبة المسار التفاوضى على هذه الأسس وضمن جدول زمنى يتفق عليه.
لا شك أن دون ذلك الكثير من الصعوبات والعراقيل وبشكل خاص وكبير من الجانب الإسرائيلى. ولكن متى وجدت الرؤية والإرادة الدولية والإقليمية من طرف القوى المعنية بالاستقرار الإقليمى والفاعلة يصبح تحقيق ذلك الهدف ممكنا أيا كانت العراقيل على طريقه. البديل عن ذلك كما علمنا تاريخ هذا الصراع، هو نوع من الهدن القصيرة أو الطويلة أو أعمال وقف إطلاق النار لا تصمد طويلا أمام سياسات إسرائيلية توسعية باسم عقائد أصولية ومتشددة. المستقبل القريب سيدل على الطريق الذى ستسلكه الحرب الإسرائيلية وتداعياتها على الإقليم الشرق أوسطى بأشكال وأوقات مختلفة.