بقلم:سوسن الأبطح
«المال» و«الغضب»، يحركان الأمير هاري الذي أصبحت سيرته شاغل الكثيرين، رغم أن بريطانيا تعيش أحلك أيامها وأسوأ إضراباتها، ويعاني المواطن فقداناً تاريخياً لقيمة مدخوله الشرائية، بعد تضخم غير مسبوق. أما الأمير الصغير، فبمقدوره، في هذا الظرف القاهر، أن يبيع أخباره وأسراره، بعشرات ملايين الدولارات، من دون كبير جهد، بتواطؤ من البسطاء الذين يشترون أسوأ القصص وأشنعها.
أوليس المستهلك ضحية حب «البصبصة» والفضول المجاني، ويشجع على نشر الغسيل النتن، حين يغري منصات العرض ودور النشر بالبحث عن الفضائح والمكائد.
كتاب «البديل» ما هو إلا الجزء الأول من سيرة هاري، وأحدث كل هذه الضجة. المعلومات تشير إلى أن دوق ساسكس وقّع مع دار نشر «ترانسوورلد بنغوين راندوم هاوس» في لندن، على نشر أربعة أجزاء من سيرته، لا نعرف متى تصدر. أي أن هاري، ماضٍ في الفضفضة ونشر خفايا العائلة المالكة البريطانية حتى النهاية، ويطلب في الوقت نفسه وصل من انقطع معها. وهو أمر في غاية السوريالية، حتى إن ثمة من يسأل هل سيتمكن هاري من حضور حفل تتويج والده في مايو (أيار) المقبل، بعد ما ارتكبه؟
ينشر شاب صغير في الثامنة والثلاثين مذكراته التي تشبه الكثير من قصص اليتامى الأغنياء المدللين والمعذبين، ويحصد بيعاً، منذ اليوم الأول فاق كل التوقعات، وجهزت ملايين النسخ التي يفترض أن تنفد بسرعة البرق، مع أن الكتاب قُرصن ووُزعت صوره على الهواتف، لحظة صدوره بالإنجليزية. عشرون مليون دولار على الأقل تكلّفتها دار النشر لإطلاق الكتاب، والأرباح ستكون بعشرات الملايين، فيما يكدّ الأكاديميون خلف نظاراتهم السميكة، وكتبهم الكبيرة، يسهرون الليالي الطوال، ولا يجدون من يعبأ بنتائج أبحاثهم ومؤلفاتهم الثمينة. يذهب فكري إلى نجيب محفوظ الذي كتب حتى موته، وحين حصد نوبل، بدا وكأنه يقبض على كنز غير متوقع. فأين هاري من محفوظ، وبدر شاكر السياب وفرانز كافكا، وأوسكار وايلد وإدغار ألان بو، وعذاباتهم في الكتابة. مستفزٌّ الإقبال الكبير على شراء مذكرات، أهم ما فيها أصبح معروفاً، ونصها موجود بالمجان. الكتاب يخترق ويحلق، بفضل خطة تسويقية باهرة، بدأت بالقول بأن النسخ الإسبانية ظهرت قبل الإنجليزية بطريق الخطأ، ما أفسح المجال للتشويق والكتابة عن المؤلَّف قبل وصوله إلى يد القراء البريطانيين. هؤلاء مستاؤون من أفعال هاري، ومع ذلك يشترون، وهم يعرفون، أنه لم يكتب، ولم يصحح، وأنه روى حكايته لكاتب شبح، ودوّن له جي. آر. مورينغر الكتاب بأسلوبه السلس الجذّاب.
ليس من تفسير لظاهرة تتسع سوى أن الناس لا يعنيهم من المعلومات الجاد والمفيد بل الفضائحي والمسلي الذي يسمح لهم بالثرثرة وتزجية الوقت، وتلك حكاية أخرى.
من الجملة الأولى للكتاب، شبح الأميرة ديانا حاضر، وكأنها تحرك هذا الانتقام من قبرها. هاري لا يصدق رواية وفاتها، بقي لفترة طويلة يظن أنها دبرت الخبر لتهرب من جحيمها. زوجته بالنسبة له تلقى نفس المعاملة السيئة من عائلته التي واجهت بها والدته. يسربون أخبارها وحكاياته إلى الصحافة التي أودت بحياة ديانا. عاتبٌ أيضاً لأن والده لم يحتضنه وهو يعلمه بوفاة أمه. يطلب الهرب من الصحافة ويعتكف مع عائلته في كاليفورنيا ثم يفعل كل شيء ليكون على صفحاتها الأولى.
العالم في غنى عن معرفة العمر والمناسبة التي فقد بها هاري عذريته، وليس من المهم إن كان قد أحب الكوكايين والحشيش اللذين جربهما وهو في عمر السابعة عشرة. الحرص على التشويق في كتاب فيه الكثير من التفاصيل المملة ضرورة. لا بد من بعض التوابل والبهارات، لكنه انزلق إلى حد وصف قتله لخمسة وعشرين شخصاً من «طالبان» بأنه كأنما أزالهم عن قطعة شطرنج، أثناء خدمته كقائد هليكوبتر في أفغانستان. حب الإثارة يعرّض هاري نفسه لخطر الانتقام، وهناك من يطالب بمحاكمته. عسكريون إنجليز يشعرون بخجل من الكلام عن القتل بهذا البرود، وسؤال من بعض مواطنيه إن كان قد جنّ أو أن عليه أن يستمر في علاجه النفسي، بدل أن يداوي نفسه بكتابة تضعه على حافة الخطر.
الأمير مشغول بإنجاح كتابه بأي ثمن. فبعد مقابلته الشهيرة وزوجته مع أوبرا وينفري، واتهام عائلته بالعنصرية تجاه ميغان، يقال إن الحزن والكمد قصّرا من عمر جده الأمير فيليب وجدته الملكة إليزابيث. ومضى الحفيد بمغامرته في جني الأرباح مع «نتفليكس»، وتقاضى ما يقارب مائة مليون دولار مقابل السلسلة الوثائقية التي صورها مع زوجته، بسعر 300 ألف دولار للدقيقة الواحدة.
كما أرسل كتابه إلى المطبعة، راغباً في إصداره، في حياة جدته، لولا تنبيه مقربين. وها هو بعد أشهر من وفاة الجدة، يبصر «البديل» النور ويروّج له هاري بمقابلات، تكاد تكشف عما هو أسوأ مما في الكتاب نفسه.
يملك هاري ثروة كبيرة، ورثها عن أمه، إلا أنه في كتابه يحسد أخاه على بيته الذي يشبه المتحف، ويستفيد من أن عائلته مكبلة بوضعها الرسمي وعاجزة عن الرد، ليروي ما يشاء، ويتهمها بما يريد.
الطفل البريء، بوجهه الحزين الذي تمنى العالم أجمع لو يحتضنه ويواسيه وهو يسير خلف نعش والدته ديانا قبل 26 عاماً، يصدم العالم أجمع وهو يتحدث عمن قتلهم في أفغانستان، واصفاً إياهم بأنهم أهداف، وأنه لم يشعر حينها بالرضا ولا بالخجل، «كل ما في الأمر أنه تم القضاء على الأشرار قبل أن يقتلوا الأخيار». أكل هذا لأنه يعتبر نفسه منذ الولادة، كأنه الظل أو «البديل» والخطة «ب» في حال غياب شقيقه؟!