«إذا استطعنا أن نأخذ مبادرة التنمية في أيدينا فسنبقى، أما إذا تركناها في أيدي الآخرين فسيكتب لنا الفناء. لهذا يتوقف بقاء الصين وفناؤها على تنمية الصناعات». هذه المقولة لأول رئيس للجمهورية الصينية صن يات صن (1866 - 1925)، احتاج تحقيقها 100 سنة، لم تكن سهلة. عانت الصين طوال القرن الماضي من مآسي الحروب والتفكك والفقر والمؤامرات والمجاعة. وحين جاء المستعرب الصيني تشونغ جي كونغ ليدرس في القاهرة أيام الرئيس جمال عبد الناصر، وشاهد مبانيها وشوارعها، وكانت بلاده لا تزال تتعثر بوحولها، حلم لو تصبح بلاده مثل مصر.
لكن الصين تجاوزت العرب جميعاً، وباتت في سباق محموم مع أميركا، التي تعجز عن سداد ديونها، وكبح التضخم، بينما تخرج الصين من حمّى الوباء نشيطة، ومن أزمة العقارات حيوية، وكان الجميع يظن أنها ستصاب بالإرباك بسبب تورط صديقتها روسيا في الحرب الأوكرانية، فإذا برؤساء العالم يحجّون إلى بكين، طمعاً في وساطات شي جينبينغ، لإيقاف حرب باتت تستنزف الغرب كله، وتنهكه بلا أفق.
تستعيد الصين عافيتها، بعد كل أزمة، أسرع من المتوقع، ويتبين أنها تحب الصعوبات لتثبت قدرتها على تخطيها، وهذا ليس من باب المصادفة.
ذهنية الصينيين لينة كجسد التنين، تجمع بين البوذية والكونفوشية والطاوية، والإلحاد في وقت واحد. الثابت الوحيد لدى الصيني هو عدم الثبات، وتلك نقطة قوة. فكل شيء متحول، وفي حالة حراك وتبدّل، وعلى الإنسان أن يتكيف مع ما حوله، لا أن يمعن في التصلّب فيهزم.
ولا غرابة بعد ذلك أن يكتب أحد الفرنسيين المتبحرين في الثقافة الصينية، سيريل جي دي جافاري: «سواء أكانت الصين تمارس الإبهار على العالم الغربي أم تثير الخوف، فقد أصبحت حتمية في حياتنا، وكلما حضرت أكثر في يومياتنا، بدت لنا أبعد، بل أكثر غموضاً».
لهذا تشعر الصين أن عليها أن تشرح رؤيتها للعالم وتزيل اللبس وتهدئ المخاوف. لكن الأمر ليس بهذه السهولة. إذ ربما ينفر الصيني من قول الحقيقة بتفصيل، وهو بطبيعته يترك المعاني معلقة، ويشعر أن بعضاً من مهماتك كمتلقٍ هو الاستنتاج.
فإذا كانت أميركا هي أم العولمة، فإن الصين هي منقذتها، ومصححة مسارها، وهي التي تملك المعنى الحقيقي للانفتاح. هذا ما تبشر به الصين اليوم، عبر كتّابها ومفكريها. في كتاب «الحزام والطريق» للأكاديمي في العلاقات الدولية وانغ إيوي، وترجمته «مؤسسة الفكر العربي» مشكورة، نستشفّ ما سيكون عليه العالم يوم تتمكن الصين من تحقيق رؤيتها التي تصفها بـ«الإنسانية» بعد التغلب على الغرب و«مركزيته».
الصين كما يشرح لنا إيوي، آتية بمشروع له بعد متجذر في التاريخ والتقاليد. حيث إن «الإنسان الذي يغدق على الناس النعم الوفيرة، ليس بالإنسان الرحيم فقط، بل حكيم أيضاً» بحسب كونفوشيوس، في كتاب «الحوار»: «فعلى الإنسان تسهيل سبل الناس، كما يرغب في تسهيلها لنفسه». هكذا تعدنا الصين بأن تكون أمينة لمبادئ حكيمها وتعاليمه، وتعاملنا كما مواطنيها. وهو ما تحاول تنفيذه عبر مشروعها «حزام طريق الحرير الاقتصادي».
أما «استراتيجية عقد اللؤلؤ» التي تتبعها للحصول على أكبر عدد ممكن من الموانئ لتأمين تدفق الطاقة التي لا حياة من دونها، وتسهيل انتقال صادراتها إلى كل بقعة، فيبدو بالنسبة لإيوي أن لها بعداً آخر، هو محاربة الفقر. «إذا نظرنا من القمر الصناعي إلى الأرض، لن نرى المصابيح مضاءة وباهرة إلا في المناطق الساحلية في اليابان وأميركا الشمالية والدول الأوروبية المتقدمة... أما الدول الأخرى فلا تزال تعيش في ظلام الفقر». يقول الصينيون إنهم يريدون «تحويل العولمة إلى عولمة حقيقية وشاملة، تضرب بجذورها في أعماق العالم، في ظل أصوات الشك والمعارضة ضدها».
من أهم الكلمات المفاتيح في الثقافة الصينية القديمة بالفعل هي كلمة «قوان شي» وتعني «العلاقات». وعليه، فإن فكرة «الحزام والطريق» القائمة على تحرير «العلاقات» من خلال فتح الحدود بين الدول هي في عمق الفكر الصيني القديم، بهدف خير البشرية.
ففي كتاب «التحولات»، أحد أبرز 5 كتب في التراث الفلسفي الصيني، عبارة تقول: «ما يصل إلى نهايته سيشهد تغيراً، وما يشهد تغيراً سيفتح الطريق إلى التطور، وما يفتح الطريق إلى التطور سيبقى طويلاً بلا شك».
لذلك، فإن «الحزام والطريق» ليس مجرد مشروع تجاري، مادي، بلا روح، بل هو عودة للأصالة ولكونفوشيوس والطاوية، وكتب الحكمة الأكثر تأثيراً في نفس الإنسان الصيني. وهو ما يفترض أن يعطيه مشروعيته، فيكون التواصل بين البشر، أغنيائهم وفقرائهم، في المدن الساحلية والداخلية، في الدول المتقدمة والأقل تقدماً، بفضل شبكات قررت الصين إقامتها، «وهي الوحيدة التي تملك قدرة تحقيق هذا المشروع لربط العالم وتحقيق أعلى تواصل بين أبنائه».
أما السبب فلأنها تملك 371 نوعاً من الصناعات اللازمة، لتحقيق وإنجاز هذه الشبكات، براً، وبحراً وجواً، وافتراضياً تكنولوجياً.
أما لماذا نجحت الصين في بلوغ هذه القدرات؟ فببساطة، لأنها «ليست حليفة لأميركا، ونجحت في صنع القنبلة الهيدروجينية والقمر الصناعي بنفسها»، ولأنها قاومت العقوبات الأميركية، وبنت نظاماً وطنياً مستقلاً.
ما تبشّر به الصين هو نظام عالمي أكثر عدالة وأقل مركزية، ينير حياة 80 في المئة من البشر، الذين تركهم الغرب القوي مهمشين مستغلين. وهي في مشروعها تعتمد حكمة الأجداد وعمق إنسانيتهم، وهو كله كلام جميل. لكن النظريات شيء، والتطبيق أمر آخر. فالغرب وزّع نظرياته في حقوق الإنسان والحيوان والشجر على الأمم، ولا يزال. والصين لن نعرفها إلا على محكّ التجربة في السنوات المقبلة.