لم ينتهِ بعد الجدل حول السماح بـ«الخليوي» في المدارس، ليبدأ نقاش أكثر خطورة حول استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الطلاب. وإذ يؤكد الخبراء أن أي منع يمكن أن يمارس، سيكون بمثابة معركة خاسرة سلفاً، تخوضها الهيئات التربوية كمن يقاتل طواحين الهواء، فإن الأسئلة لم تعد عن المسموح والممنوع، وإنما بخصوص قواعد الاستخدام، وأصول التعاطي مع دفق التكنولوجيا التي تغرق البشرية، ولا تترك فسحة للتفكر والتأمل في طريقة التعاطي معها.
وتتغير تكنولوجيا التعليم، كل 36 شهراً، حسب تقرير جديد لـ«اليونيسكو»، بسرعة تفوق القدرة على تقييمها، أو الحصول عليها من قبل الدول الأكثر فقراً، بينما تبذل الشركات التجارية المنتجة لها ملايين الدولارات في سبيل الترويج لفائدتها، وبث الشعور بالخسران، لمن يفوته التمتع بمزاياها. فالسوق تبلغ ما يقارب 300 مليار دولار وربما أكثر، وسيأتي وقت تصبح فيه التكنولوجيا هي خبز وماء العملية التعليمية.
ووافق المدرسون أم غضبوا، فإن السرقات الأدبية زادت بنسبة عشرة أضعاف في السنوات القليلة الماضية، وبات يُطلب من الأساتذة تعقيد الأسئلة بحيث يصعب طرحها وتلقِّي إجاباتها جاهزة من «تشات جي بي تي» الذي أصبح رصد السرقات عنه صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. يكفي أن تأخذ النص غير المسبوق الذي يفبركه هذا الروبوت، من مجموع ما لُقِّن من نصوص، وتبدِّل في مفرداته قليلاً، مع الاحتفاظ بفكرته، ليصبح إثبات الغش مهمة مستعصية للغاية.
لو سألت «تشات جي بي تي»: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تعليم الطلاب؟ فسيقدم لك مطالعة طويلة، تتأكد بعدها من أنه قادر؛ ليس فقط على الحلول مكان الأستاذ؛ بل يرصد حركات وسكنات التلامذة، ويقيِّم مستوى كل منهم، ويوفر منصات تشاركية لمن يريد، ويدرِّب ويثقف ويحاور، ويجري الامتحانات ويصححها، وهو لا يزال يحبو، فما بالك حين يبلغ سن الرشد!
وحين نقول إن التعليم في ورطة، فلأن إهمال التطور التكنولوجي يورِّث التأخر، واللهاث خلفه قد يتسبب في تزحلق. لهذا فإن التربويين، ومعهم «اليونيسكو» راعيتهم الأممية، أمام محنة التعامل مع أدوات جديدة لا عهد لهم بها. والأسوأ أن التلامذة أكثر تمرساً من أساتذتهم في التعامل مع جديد التكنولوجيا، بينما يعبر المعلمون في الغالب عن صدود وعدم رغبة في الانخراط بمغامرات لا ينظرون إليها بما تستحق من حماسة.
ثلث أساتذة الجامعات فقط يريدون تعلم كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث، ونصف بلدان العالم على الأقل لم تخضع أساتذتها لتدريبات تؤهلهم لمواكبة طلابهم الذين سبقوهم إلى دنيا العجائب الروبوتية.
وكي تعرف خلاصة ما ستنتهي إليه المدرسة بفلسفتها التي نعرفها من مئات السنين -من فصول ومعلمين، وفروض في المنزل- فإن عليك أن تستمع إلى سلمان خان، مهندس الكومبيوتر والأكاديمي الأميركي، من أصل بنغلاديشي- هندي، صاحب الرؤية التربوية الأكثر حكمة ورصانة. والرجل من النباهة بحيث إن بيل غيتس الذي لم يكن يعرفه شخصياً مدحه في إحدى محاضراته؛ لأن أولاده يعتمدون منصة «خان أكاديمي» لإتمام دروسهم، وتبرع بعد ذلك للمنصة بمليون ونصف مليون دولار، لإيمانه بالمهمة البديعة التي يقوم بها.
والرجل صاحب «خان أكاديمي» الافتراضية التي تحمل اسمه، وعليها عشرات آلاف الفيديوهات التي تشرح الدروس العلمية والرياضيات لكل الصفوف، متوفرة حالياً باللغتين الإنجليزية والفرنسية، يرى بعد خبرة تعليمية طويلة، أن تحول المدرسين إلى شرطيين يراقبون ما سرقه طلابهم، وما عملوا عليه بجهودهم الخاصة، أمر لن يستقيم أبداً.
لن تمر سنوات قبل أن يصبح التعليم الذاتي بواسطة الدروس الافتراضية وبرامج الذكاء الاصطناعي في المنزل، هو الأساس، وليست المدرسة، حسب خان. أي أن التلامذة سيستعينون بالمدرِّس الآلي في بيوتهم الذي بات بمقدوره أن يشرح لهم كل دروسهم، عبر الصور والفيديوهات، بطرق مبسطة، وسيجدون الراحة في الاستفسار وإعادة السؤال، وتكرار الإجابة دون حرج. أما ما سنفعل بالتلاميذ المشاغبين؟ ومن سيضبطهم؟ فهذا سهل أيضاً؛ إذ إن ثمة برامج ومنصات من الآن تستطيع أن ترصد ما شاهده التلميذ وما قرأه، وما استمع إليه، والمدة التي قضاها.
أما المدرسة فستفقد سلطتها القديمة، ولن يعود الأستاذ هو مصدر المعرفة، و«من علمني حرفاً كنت له عبداً»، وإنما سيصبح مرشداً ومساعداً، ومنبهاً، ومصححاً للمسار؛ إذ سيأتي التلامذة إلى الصفوف لإجراء الفروض والخضوع للامتحانات للتأكد من مصداقيتها، وللاستفسار والاستماع إلى مزيد من الشروح، والإضافة إلى ما عرفوه، والاستنارة مما اطلع عليه زملاؤهم.
كل هذا يعني أن المعلم يجب أن يصبح أكثر ذكاء، واسع المعرفة، شمولي الاطلاع، كي يتمكن من تزويد طلابه بما لم يتمكنوا منه مع آلاتهم. والتلميذ أكثر مسؤولية وتنظيماً وانضباطاً. بالتالي ساعات الحضور في المدرسة ستنخفض حتماً. وأصلاً ثمة من يعتبر أن الطلاب يُظلمون في حبسهم بين الجدران لفترة طويلة تفوق قدرتهم على الاحتمال. بالتالي فإن سنوات التعليم ستصبح أقل هي أيضاً، وسيجد الشباب أنفسهم وقد خرجوا إلى سوق العمل، متسلحين بمناهج المعرفة الذاتية، ويجيدون إدارة شؤونهم، والبحث عن معلوماتهم بمهارة كبرى. وستكون الحكومات في المستقبل أمام تحدي توسيع سوق العمل لأعداد أكبر من الخريجين الذين يبحثون عن وظائف وهم ربما في السادسة عشرة أو الثامنة عشرة، وتلك مشكلة أخرى.
هل هو سيناريو «خنفشاري» أن تنقلب الأدوار، ويصبح ما نفعله في المدرسة مكانه هو البيت، والمدرسة هي للفروض والامتحانات؟ لو فكرت قليلاً، وبعيداً عن الحنين إلى مدرسة الأيام الخوالي، فستشعر أن الحل الوحيد المتبقي هو «أكاديمية سلمان خان» وأخواتها اللواتي سينبتن كالفطر على الشبكة العنكبوتية.