بقلم - عبد الرحمن شلقم
الحرب الروسية على أوكرانيا، لها كتلة من المحركات والدوافع، ولها ارتدادات واسعة وبعيدة المدى عابرة للقارات. لقد سيطرت تطورات الحرب الروسية في أوكرانيا على الرؤوس السياسية في العالم، وكذلك على وسائل الإعلام بكل أنواعها. صارت الحرب صراعاً دولياً تبدى في الاقتصاد وهزَّ الضمير العالمي، حيث يتابع ملايين البشر مجريات تلك الحرب على وسائل الإعلام المختلفة. القوات الجوية الروسية تطوف في الأجواء الأوكرانية والقوات البرية تزحف على التراب الأوكراني عبر محاور عديدة. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حدَّد قبل بداية الحرب أهدافه منها، وهي اعتراف دولة أوكرانيا بتبعية شبه جزيرة القرم لدولة روسيا، والاعتراف بالجمهوريتين الجديدتين في إقليم دونباس، دونيتسك ولوغانسك، كيانين مستقلين، وتعهد أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وكذلك الاتحاد الأوروبي، ونزع سلاح أوكرانيا، وعزل من تصفهم روسيا بالنازيين الجدد في أراضيها.
بعض الطلبات الروسية يمكن تفهمها، وقد تكون قابلة للتفاوض، ولكن بعضها يستحيل القبول بها. الطلبات الروسية هي الجزء الأعلى من جبل الثلج، أما ما هو تحت الماء فلا يراه سوى الرئيس بوتين بعينين لهما بؤبؤ ذاتي ووطني روسي. أوكرانيا كانت لقرون عدة جزءاً من روسيا القيصرية، وكذلك الشيوعية، وساهمت بقوة في تأسيس الكيان الروسي، وهناك تداخل عرقي ولغوي وثقافي بين البلدين. لقد عاش الرئيس بوتين، حقبة الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى، وكانت الرأس الثاني فوق جسم الدنيا مع العالم الغربي بجناحيه الأميركي والأوروبي الغربي. لم يكتفِ الغرب بتلاشي الاتحاد السوفياتي، لكنه قام بضم الجزء الشرقي من أوروبا إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، أما الجمهوريات السوفياتية السابقة في غرب آسيا فقد اختلفت ولاءاتها. كان بوتين شخصياً شاهداً على انهيار جدار برلين الفاصل بين القوتين الأعظم؛ الشرق الشيوعي والغرب الليبرالي. الجزء الغاطس في أعماق الماء من جبل الثلج، به الكثير من العناقيد الاستراتيجية الوطنية والدولية بالنسبة للرئيس الروسي. هو يريد أن تكون أوكرانيا الجدار الجديد الذي يشكل الدرع الواقية لروسيا من التمدد الغربي إلى الوطن الروسي سياسياً وعسكرياً وثقافياً واقتصادياً. بوتين اليوم بالنسبة لروسيا ليس مجرد رئيس، بل هو الزعيم الوطني الذي أعاد بناء كيان عملاق تداعى بسبب الخلل الذي أصاب روسيا العظمى، وشخصه في غياب الهوية الوطنية في خضم الأممية الشيوعية التي ذابت فيها الهوية الوطنية الروسية، وضعف الحزب الشيوعي وشيخوخته منذ رحيل ستالين، وأمين الحزب الشيوعي غورباتشوف، ساهم في إنهاء الكيان الروسي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي يرى بوتين أن الرئيس يلتسين خدعه الغرب وخضع له، وكانت سياسته الضربة القوية التي ركعت ما تبقى من روسيا. تحرُّك بوتين العسكري الشامل نحو أوكرانيا هو جزء من إعادة تأسيس روسيا الوطنية بهوية تستمد مقوماتها من الماضي القيصري والإيمان المسيحي الأرثوذكسي. المفكر الروسي ألكسندر دوجين، يُعد من المنظرين الأساسيين للسياسة البوتينية. دوجين طرح منذ سنوات ما سماه النظريةَ السياسية الرابعة، وقصد بالعنوان تجاوز النظريات الليبرالية والقومية والشيوعية. ترتكز نظرية دوجين السياسية الرابعة على الدين والتاريخ والقومية والتكوين الخاص للهوية الروسية جغرافياً وبشرياً، ويورد في سياق نظريته، أن روسيا لم تشهد يوماً نظاماً سياسياً تعددياً، وإنما كانت تقاد بالزعيم، وحتى القياصرة كانوا زعماء، ويقول دوجين إن القيصر في الرأس والدين في القلب، ويضيف أن الدين المسيحي الأرثوذكسي عامل أساسي في تشكيل الهوية الوطنية الروسية، وتحديد نمط حكمها بقيادة الزعيم، ويرى أن بوتين هو الزعيم الذي يجمع كل الصفات التي يحتاجها باني روسيا الوطنية الجديدة، وأن بقاءه على رأس الدولة الروسية لأكثر من عقد مقبل، سيمكنه من تحقيق ما يطمح له الشعب الروسي بإقامة كيان وطني لدولة حديثة قوية.
بوتين هدفه الأول إعادة تأسيس روسيا، أما الحديث عن الدور الدولي لبلاده، وما يقال عن تعدد الأقطاب في عالم جديد، فذاك ليس من أولوياته، وإن كان لا يعارضه. لن تتعدد أقطاب العالم في المستقبل المنظور، فللقطب الفاعل دولياً إمكانات ضخمة موصوفة مالياً وعسكرياً وعلمياً وتقنياً. القطب الغربي الليبرالي بتكوينه الأميركي والاتحاد الأوروبي، وذراعه العسكرية حلف الناتو، إضافة إلى اليابان بقدراتها الاقتصادية والعلمية، لا يوجد اليوم من يمتلك مقومات منافسته.
الحديث عن الصين كقطب منافس للتكتل الغربي، لا يخلو من الخلط بين القوة الاقتصادية الصاعدة بقوة هائلة عالمياً ومقومات القطب القيادي الدولي. للصين حساباتها الخاصة وخطواتها المحسوبة بدقة. العقل الصيني له موروث تاريخي سياسي واجتماعي وثقافي هائل يستضيء به قادتها. إلى اليوم يكرر القادة الصينيون أنهم دولة نامية، ولا يريدون الظهور كقوة تصارع من أجل القيادة والسيادة على المستوى الدولي، ولكنهم في الوقت ذاته، يجيدون استغلال الصراعات التي يخوضها الآخرون.
في الماضي، تحاربت الإمبراطوريتان العثمانية والروسية، وكان المنتصر هو بريطانيا. الصين ستجني الثمار التي تسقط من شجرة الصراع الروسي الغربي من دون أن تكون طرفاً فيه، وستنتظر المخرجات الختامية لهذه الجولة من الصدام الدائرة الآن بين روسيا والغرب، لتوظفه في مسار مصالحها الاقتصادية أولاً. السياسة الصينية تقوم على الهدوء والبطء المحسوب، فعندما سئل الزعيم ماوتسي تونغ، عن رأيه في الثورة الفرنسية، سأل سائله بقوله: متى قامت هذه الثورة؟ فأجابه بأنها قامت منذ مائتي عام، وكان رد ماو تسي تونغ: من المبكر الحكم عليها. الصين ستكون المستفيد الأكبر من الحرب الروسية في أوكرانيا اقتصادياً. منذ قرون قال الشاعر الفيلسوف أبو الطيب المتنبي:
مصائب قوم عند قوم فوائدُ
ويمكن أن نقرأ اليوم عجز بيت المتنبي من زاوية أخرى فنقول:
فوائدُ قوم عند قوم مصائبُ
لقد صعد الرئيس الروسي إلى شجرة أوكرانيا على رافعة الدم وتداعى له التكتل الغربي، ولفَّ حوله حبل العقوبات الثقيلة غير المسبوقة مالياً وسياسياً. هذه هي الحرب الأولى التي يراها العالم كله عبر وسائل الإعلام العالمية المرئية والمسموعة والمكتوبة. يتابع مليارات البشر ملايين الهاربين من الحرب وهم يغادرون أرض أوكرانيا إلى شتى بلدان العالم، الأطفال والشيوخ والنساء، وتنقل وسائل الإعلام على الهواء مباشرة القصف الجوي والبري. المظاهرات في كل أنحاء العالم التي تعبر عن معارضة هذه الحرب، والغالبية الساحقة من دول العالم أدانت الفعل الروسي في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة. إنها الحرب العالمية الشاملة، تحديداً في جانبها الاقتصادي، حيث كانت للعقوبات المفروضة على روسيا ارتدادات هائلة طالت أغلب دول العالم، فروسيا هي سلة طعام الدنيا، وكذلك تمثل أحد روافد الطاقة فيها، والممر الحيوي الجوي بين القارات. روسيا قادرة بدرجة أو بأخرى على احتواء العقوبات إلى حين، ولكن المعركة أوسع وأكثر تعقيداً. لقد تم وضع روسيا بين مطرقة العقوبات الثقيلة وسندان المقاومة الأوكرانية المدعومة بأسلحة غربية متطورة، فما هو السلم الذي سيهبط به بوتين من شجرة الدم الأوكرانية ليواصل تحقيق مشروعه الوطني الروسي التاريخي.