بقلم : عبد الباري عطوان
ربطتني بصحيفة “الغارديان” البريطانية اليومية الرصينة، علاقة خاصة استمرت لعدة سنوات، وكتبت فيها عدة مقالات عن ليبيا، حذرت فيها من تدخل حلف الناتو العسكري، وقلت انه سيحولها الى دولة فاشلة، وحاضنة للفوضى الدموية، والجماعات الإسلامية المتشددة، ونقطة الانطلاق المفضلة لآلاف المهاجرين الى أوروبا لقربها من اليابسة الإيطالية، ولامتداد شواطئها لاكثر من الفي كيلومتر على البحر المتوسط.
صحيفة “الغارديان”، التي اثق بمعلوماتها، كشفت اليوم (الاثنين) عن خطة لدى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتقسيمها الى ثلاث دول صغيرة، حسب الإرث العثماني، واحدة في ولاية برقة بالشرق، وثانية في طرابلس بالغرب، وثالثة في فزان بالجنوب، وقالت ان سباستيان غروكا، احد مستشاري الرئيس الأمريكي الجديد للشؤون الخارجية، وابرز المرشحين لتولي منصب مبعوث الإدارة لليبيا هو الذي يقف خلف خطة التقسيم هذه، ورسم خريطتها لمبعوث أوروبي رفيع المستوى باعتبارها الحل الأمثل للازمة الليبية، ولان حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها السيد فايز السراح وتحظى بدعم الأمم المتحدة، ليس امامها اي فرصة للنجاح، حسب اعتقاده.
***
خطة التقسيم هذه التي حذرنا منها طوال السنوات الماضية في صحف بريطانية، وفي هذه الصحيفة “راي اليوم”، لن تحل ازمة ليبيا بل ستزيدها تعقيدا، لانها ستفجر خلافات، وصراعات، وحروبا أهلية اكثر دموية مما عليه هي الآن، حول كيفية رسم الحدود وتوزيع الثروات النفطية التي يتواجد معظمها في الهلال النفطي في إقليم برقة في الشرق، بينما لا توجد مثل هذه الثروات بالكثافة نفسها، في طرابلس وفزان، والمجتمع الليبي مجتمع قبلي مناطقي لعبت الأطراف المتدخلة في بلاده، عربية كانت او اجنبية، في تأجيج الصراع بين القبائل.
من المفارقة ان الأمريكيين عارضوا خططا بريطانية وفرنسية لتقسيم ليبيا وفق الخريطة العثمانية، بعد الحرب العالمية الثانية، لانهم كـ”وحدويين” و”فيدراليين” أرادوا ان تتوزع العوائد النفطية على كل الشعب الليبي بالتساوي دون أي تفرقة، وسبحان مغير الأحوال.
عندما عارضنا تدخل حلف الناتو الذي جاء تحت ذريعة حماية الشعب الليبي، انفتحت علينا “أبواب جهنم”، سواء من الحكومات العربية التي كانت، وما زالت، تدعم الفوضى الدموية في البلاد، ومن جماعات “لوبي” صهيونية”، كانت تريد ان تكون “ليبيا الجديدة” من المطبعين مع إسرائيل، ورسالة “الفيلسوف” الفرنسي برنارد هنري ليفي التي حملها للحكومة الإسرائيلية في هذا الصدد باسم المجلس الوطني الليبي في حينها، ونشرها في كتابه هي ابرز المراجع في هذا الصدد، ووصلتني رسائل هجومية شرسة بلغة إنكليزية بأسماء ليبية لا يكتب مثلها وليم شكسبير نفسه، وفاقت العشرات، كما وصل المئات منها الى صحيفة “الغارديان” ومحطة تلفزيون الـ”بي بي سي” العالمية الناطقة بالانكليزية، التي ظهرت على شاشاتها كصوت مخالف في حينها.
الرئيس باراك أوباما اعترف بخطيئته، وعبر عن ندمه لدعم التدخل العسكري في ليبيا من قبل حلف الناتو، وقال ان هذا الدعم هو اكبر خطأ ارتكبه في فترتي رئاسته، وحمّل حلفاءه الفرنسيين والبريطانيين المسؤولية الكاملة عن كل ما لحق بليبيا من اضرار نتيجة هذ التدخل.
إدارة الرئيس ترامب تريد اتباع سياسة مناهضة لسياسة أوباما في ليبيا، والتخلي بالتالي عن حكومة “الوفاق الوطني”، وربما تتبنى خطة التقسيم، سيرا على خطى الرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش الابن في العراق، وما تحاوله حاليا في سورية بدءا من اقامة دولة كردية في شمالها.
***
ليبيا تعيش الآن أسوأ فترات تاريخها، نعم أسوأ من أيام الاحتلال الإيطالي، ففيها ثلاث حكومات، وبرلمانات، وعشرات الميليشيات المتقاتلة، وفوضى دموية، وانعدام شبه كامل للامن والاستقرار، وفساد غير مسبوق ففي السنوات الست الماضية من عمر “الثورة” جرى نهب وسرقة 200 مليار دولار كانت ودائع تركها النظام السابق، وسرقها الحكام الجدد، واتباعهم وحولوها الى بنوك اجنبية، وبات نصف الشعب الليبي لاجئا في تونس ومصر ودول أوروبية أخرى، بينما النصف الذي بقي في البلاد يتضور جوعا، ولا يجد الحد الأدنى من الخدمات الأساسية في ظل “حكومات” لا تدفع حتى رواتب موظفيها، وهي التي تتربع على بحيرة نفطية.
نعارض تقسيم ليبيا، مثلما عارضنا غزوها من حلف الناتو، وقتل حوالي 50 الفا من أبنائها في قصف طائراته، وعانينا الكثير، والسؤال الذي نطرحه هو عن هؤلاء الذين ايدوا هذا الغزو وقصف طائراته، ووفروا له الغطاء “الشرعي”، واحتلوا المنابر لسنوات يبشرون بمستقبل مشرق لليبيا الجديدة، اين ذهب هؤلاء؟ ولماذا لا نسمع لهم صوتا، وهل سيعتذرون للشعب الليبي (نحن لا نريد اعتذارهم)، ويعترفون بخطئهم مثلما فعل باراك أوباما؟
لا نعتقد انهم سيفعلون، لان بعضهم ما زال متورطا في مخطط تخريب ليبيا، متخفيا بأقنعة جديدة، والبعض الآخر اختفى عن الأنظار، ربما خوفا وخجلا، وكان الله في عون الشعب الليبي الطيب الشهم، الذي اكتشف مسلسل الكذب والتضليل، وفتح عيونه على الحقيقة، وبات يترحم على زمن مضى... هل ستحل هذه الخطة الازمة وتقود ليبيا الى بر الأمان؟ ولمن سيذهب النفط؟ ومن سيرسم الحدود؟ الم نحذركم قبل ست سنوات