اختلط الامر علينا، وربما على الكثيرين مثلنا، ونحن نتابع المؤتمر الصحافي الذي عقده ريكس تيرلسون، وزير الخارجية الأمريكي، مع نظيره التركي مولود جاويش اوغلو في انقرة بعد مباحثات مكثفة، ومغلقة في بعض الأحيان، اجراها مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، ورئيس وزرائه بن علي يلدريم، الى جانب السيد اوغلو، تركزت على الأوضاع في سورية والحرب على الإرهاب.
المفاجأة تمثلت في تأكيد تيرلسون على “ان الشعب السوري هو الذي سيقرر مستقبل الرئيس بشار الأسد على المدى البعيد، فمثل هذه العبارة لم ترد مطلقا على لسان أي مسؤول امريكي من قبل، وكانت حكرا على القيادة الروسية، والرئيس فلاديمير بوتين، ووزير خارجيته سيرغي لافروف.
المسؤولون الامريكيون ظلوا طوال السنوات الست السابقة من عمر الازمة السورية يطالبون بإسقاط النظام السوري، ويؤكدون انه لا مكان للرئيس الأسد في مستقبل سورية، وقدموا الدعم العسكري والسياسي الكامل للمعارضة السورية المسلحة، ورصدوا مئات الملايين من الدولارات لتدريب بعضها، وتمويل وتسليح البعض الآخر، وشكلوا منظومة أصدقاء الشعب السوري.
صحيح ان الإدارة الامريكية في عهد الرئيس باراك أوباما عدلت استراتيجيتها، واعطت الأولوية لمحاربة الإرهاب، والقضاء على “الدولة الإسلامية” او “داعش” على وجه الخصوص، لكنها تمسكت بعدم وجود دور للرئيس الأسد في الحاضر او المستقبل، واكبر تنازل قدمته في هذا الصدد هو القبول ببقائه في المرحلة الانتقالية فقط، وبصلاحيات اقل.
***
هل نفهم من تصريحات تيرلسون هذه ان الإدارة الامريكية الجديدة انقلبت 180 درجة على سياسات ومواقف الإدارة السابقة، واقتربت اكثر من الموقف الروسي، وباتت تمهد لاشراك الحكومة السورية في الحرب على الارهاب، وفتح قنوات حوار، وربما تنسيق معها في هذا المضمار؟
أهمية هذه التصريحات الامريكية التي ادلى بها تيرلسون في اول زيارة له لانقرة، تأتي من كونها تتزامن مع تطورين رئيسيين في المشهد السوري:
الأول: بدء العد التنازلي للهجوم على مدينة الرقة عاصمة “الدولة الإسلامية”، واستيلاء قوات سورية الديمقراطية التي تعتبر رأس الحربة في الهجوم، وتتشكل معظمها من الاكراد، على سد مدينة الطبقة ومطارها، وهذه القوات مدعومة أمريكيا بغطاء جوي، وحوالي 300 من القوات الخاصة الامريكية.
الثاني: اعلان السيد يلدريم امس المفاجيء، وبعد اجتماع طارئ لمجلس الامن القومي التركي استمر لساعات بقيادته، عن انتهاء عملية “درع الفرات” التي بدأت القوات التركية وفصائل تابعة للجيش السوري الحر في اب (أغسطس) الماضي بالسيطرة على جرابلس الحدودية، ومن بعدها مدينة الباب وإخراج قوات “الدولة الإسلامية” منهما.
ما يمكن استخلاصه من هذين التطورين ان الادارة الامريكية الجديدة اختارت الوقوف في خندق حلفائها الاكراد، وتفضيلهم على تركيا العضو المؤسس في حلف الناتو، وهذا ما يفسر القرار التركي بالإعلان عن انتهاء عملية “درع الفرات” بعد تحقيقها لاهدافها مثلما صرح السيد يلدريم.
قوات “درع الفرات” لم تحقق كل أهدافها، وليسمح لنا السيد يلدريم ان نختلف معه حول هذه النقطة، لان الهدف من توغلها في الأراضي السورية، ودون التنسيق مع حكومة دمشق، كان إقامة “منطقة آمنة” بعمق خمسة آلاف كيلومتر مربع، والانطلاق من جرابلس والباب للاستيلاء على منبج، ثم التوجه الى مدينة الرقة، وأخيرا طرق أبواب دمشق واقتحامها واسقاط النظام السوري، وهذا ما قاله الرئيس اردوغان بعظمة لسانه، ومعظم هذه الأهداف لم تتحقق.
لا نعتقد ان مهمة قوات “درع الفرات” انتهت كليا، ولم نسمع عن أي انسحاب للقوات التركية من الأراضي السورية، ولا نستبعد ان تكون القيادة التركية قررت نصب مصيدة في المنطقة، واشعال فتيل حرب عرقية بين فصائل الجيش السوري الحر بدعم تركي مع وحدات الحماية الشعبية الكردية، او حتى الجيش السوري نفسه.
الانسحاب التركي يعني عمليا إيجاد فراغ استراتيجي سيتنافس على سده كل من الاكراد وفصائل الجيش الحر، وربما هيئة تحرير الشام، او “النصرة” سابقا، مما يعني فتح جبهة قتال جديدة وخلق حالة من الفوضى تعطي تركيا ورقة مساومة سياسية قوية، يمكن ان تمارسها في اي مفاوضات لوقف اطلاق النار والتهدئة.
***
ربما يكون من المبكر قراءة هذا التحول الجذري في الموقف الأمريكي في الازمة السورية، والاستنتاج بأن إدارة ترامب بصدد القبول بدور كبير للرئيس الأسد في مستقبل سورية، فالحرب على الإرهاب توشك على نهايتها في الموصل رغم الصعوبات التي تواجهها، ومن المقرر بدء الهجوم على الرقة في غضون أيام، والتنسيق الروسي الأمريكي في المنطقة شبه مجمد، وهناك حالة مزمنة من عدم الثقة بالادارات الامريكية، وإدارة ترامب على رأسها، ولكن يظل ما ذكره تيرلسون في حضور مضيفيه الاتراك رسالة على درجة كبيرة من الأهمية من غير الممكن تجاهلها وتداعياتها، والسياسات تتغير حسب المصالح وانعكاسا لها.
الامر المؤكد ان الدور التركي في الازمة السورية ينكمش في ظل تمدد التحالف الروسي الإيراني، وهذا راجع في بعض جوانبه الى استعادة حلب وتدمر، وصد الهجوم على دمشق، والى الحرب الدبلوماسية التي فتحها الرئيس اردوغان على جيرانه الأوروبيين، وتهديداته التي لوح فيها بورقة اللاجئين السوريين، وعلينا ان نضع في اعتبارنا ان أمريكا تتزعم حلف الناتو الذي يشكل المظلة السياسية والعسكرية والاستراتيجية لاوروبا المسيحية، ولا يمكن ان تنحاز أمريكا لاردوغان ضد القارة “العجوز″.
المفاجأة الامريكية كبيرة، ونحتاج الى الكثير من الوقت لاستيعابها، ومن الحكمة الانتظار حتى يهدأ غبارها وتظهر معالمها كاملة.