عبد الباري عطوان
توقّعنا أن يكون الكتاب الثاني من مذكّرات السيّد عمرو موسى عن تجربته كأمين عام للجامعة العربيّة التي امتدّت لأكثر من عشر سنوات (2001 ـ 2011) حافِلًا بالمعلومات والأسرار غير المعروفة، وتُشكّل مصدرًا للمُؤرّخين بالتّالي في الحاضِر والمُستقبل، لكن، من خِلال مُتابعتنا لما جرى نشره حتّى الآن من مُقتطفات في صحيفة “الشرق الأوسط”، نشعر بخيبة أمل، وهو الشّعور نفسه الذي انتابنا عند مُطالعة فُصول كِتابه الأوّل، الذي أثار حفيظتنا حول بعض ما ورد فيه من وقائع، خاصّةً قوله إنّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يتلقّى طعامًا خاصًّا بصفة شِبه يوميّة من سويسرا بترتيبٍ من دبلوماسي في السّفارة المِصريّة، وهي رواية لم يُؤكّدها أيّ من المُقرّبين من الرئيس المِصري الراحل، الذي كان طعامه المُفضّل الجبنة البيضاء المالحة منزوعة الدّسم مع البندورة أو الطماطم، وتجنّبه لمُعظم الأكَلات الغربيّة المعروفة، مثلما روى الصّديق الرّاحل محمد حسنين هيكل في لقاء جمعنا في لندن، وتحدّث فيه عن سفره مع الرئيس الراحل على ظهر يخت المحروسة الذي ورثته الثورة المِصريّة من الملك الراحل فاروق.
نعترف أنّنا لم نطّلع على النّسخة الكاملة من الكتاب، لأنّه لم يَصدُر بعد، ولكن من خلال مُتابعتنا لما نُشر من بعض فُصوله حتّى الآن، نَجِد لِزامًا علينا التوقّف عند نُقطتين رئيسيّتين، الأولى تتعلّق بلقاءاته مع الرئيس العِراقي صدام حسين في مُحاولات لوقف الحرب على العِراق (عام 2003)، والثّانية، حول الإصلاحات التي أجراها في الجامعة العربيّة مُنذ اليوم الأوّل لتولّيه مهام منصبه.
في النّقطة الأولى يقول إنّه فقد أعصابه في أحد لقاءاته مع الرئيس العِراقي الرّاحل وصرخ في وجهه قائلًا، ونحن ننقل هُنا حرفيًّا، “اسمع بقى يا سيادة الرئيس: التنظير لن ينفع العِراق، ولن ينفعك بكُل صراحة، أنا بقولّك العِراق مُعرّض لضربة قاصمة من الولايات المتحدة القِوى الكُبرى في العالم، هل أنت واعٍ بأنّ بلدك مُعرّض لهذا الخطر الدّاهم؟ هل أنت واعٍ بأنّها مسؤوليّتك تجنيب بلدك هذه الوَيلات؟”.
أمّا بالنسبة إلى النقطة الثانية، أيّ إصلاح الجامعة العربيّة، فإنّ أبرز ما قاله إنّه أُصيب بحالةٍ من الصّدمة عندما رأى مكتبه وقاعة الاجتماعات، حيث كانا في قمّة الرّداءة والقِدَم، حسب رأيه، وطلب فورًا من المسؤول الإداري تجديد المكتب وطلائه، وإزالة الأسلاك الكهربائيّة والهاتفيّة المُتدلية، وطلب من ابنة رئيس مجلس الشعب المِصري الموظّفة في الجامعة (مُعظم الموظّفين كانوا من أبناء الذوات والوزراء والشخصيّات السياسيّة المعروفة)، أن تذهب إلى المعهد الفرنسي من أجل تقوية لغتها الفرنسيّة التي اعترفت بأنّها نسيتها تقريبًا، ولم نسمع مُطلقًا عن تشكيل مركز دراسات عالي المُستوى، لمُتابعة الأحداث العربيّة العالميّة وتحليلها، ولم نقرأ مُطلقًا عن تغيير مُدراء مكاتب الجامعة والسّفراء العاملين فيها الذين ترهّلوا، وهرم مُعظمهم، أو توظيف كفاءات دبلوماسيّة جديدة داخِل مقر الجامعة نفسه، وتفعيل الأداء، وقيادة العمل العربي المُشترك بطريقةٍ علميّة حديثة.
نعود إلى النقطة الأولى، وهي صُراخه في وجه الرئيس العِراقي صدام حسين، وفُقدانه لأعصابه في حُضوره، وتوجيه النّصائح على شكلِ أوامر له لإعادة المُفتّشين الدوليين، ونجزم، ومن خِلال مُحادثاتنا مع الكثيرين من الزّعماء الذين يعرفون الرئيس العراقي جيّدًا، مِثل الرئيسين الراحلين، الفِلسطيني ياسر عرفات، واليمني علي عبد الله صالح اللّذين كانا من أقرب الناس إليه، أنّ عمرو موسى لا يجرؤ على الصّراخ أمامه، والانفِعال في حُضوره، ومُخاطبته بهذه اللّهجة المُتعالية، فكُل الذين التقوا الرئيس العِراقي الراحل أجمعوا على شخصيّته القويّة، وحالة “الرّهبة” التي سيطرت عليهم أثناء لقائهم به.
بعد غزو القوّات العِراقيّة للكويت مطلع آب (أغسطس) عام 1990، طار الرئيس عرفات من تونس (كان يتنقّل بطائرة عراقيّة صغيرة وقديمة جدًّا)، إلى بغداد على رأس وفد يضم مجموعة من أعضاء اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير، من بينهم فاروق قدومي، وجمال الصوراني (أبو عمر) وعبد الله حوراني، وفي حفل الغداء الذي أقامه الرئيس صدام على شرف ضُيوفه، كان الجميع في حالةٍ من الحِرص الشّديد في أحاديثهم وتجنّب قول أيّ شيء يُمكن أن يُغضب الرئيس المُضيف، أيّ الرئيس صدام باستثناء السيّد الصوراني المعروف بجُرأته وخفّة ظلّه، والذي استأذن الرئيس بأن يُوجّه له سُؤالًا، فأذنه، فقال له وبكُل أدب شديد، سيّدي الرئيس صدام، هُناك نِصف مِليون جندي أمريكي في السعوديّة حاليًّا، وافترض أنّ الحرب بدأت فكيف ستكون النتيجة، فردّ الرئيس صدام قائلًا: النّصر سيكون حليف العِراق، فعاد الصوراني الذي يحمل شهادة في الحُقوق من الجامعة الأمريكيّة في بيروت مُنذ الثلاثينات، ليقول، سيّدي الرئيس إفرض أنّ احتِمال عدم النصر أقل من خمسة في المئة، هل فكّرتم بهذا الاحتِمال؟ وهنا ضربه الرئيس عرفات على رجله بقوّةٍ تحت الطاولة وطلب منه الصّمت حيث لاحظ الغضب على وجه الرئيس العِراقي الذي قال بصوت حاسم العِراق سينتصر مِئة بالمِئة، انتهى اللّقاء.
السيّد عمرو موسى خدم كوزير خارجيّة أثناء حُكم الرئيس حسني مبارك الذي كان يقف في الخندق الأمريكي الخليجي أثناء حرب الخليج الأولى والثانية، ولم يكنّ أيّ ودّ للعِراق في حينها وصوّت في مُؤتمر قمّة القاهرة عام 1990 لصالح قرار استِضافة القوّات الأمريكيّة في الجزيرة العربيّة لإخراج القوّات العِراقيّة بالقوّة من الكويت، وهو القرار الوحيد الذي لم يَصدُر بالإجماع، وكان مُؤيّدًا لاستِخدام القوّة، كما أنّه أرسل قوّات للقِتال أيّ جانب القوّات الأمريكيّة، ولم يُعارض مُطلقًا الحرب الأمريكيّة الثّانية التي دمّرت العِراق وقتلت أكثر من مِليونيّ شهيد عِراقي.
والرئيس صدام أخذ بنصائح العديد من الدول وسمح للمُفتّشين بالعودة إلى العِراق ومُمارسة مهامهم، ودمّروا جميع أسلحة الدمار الشّامل، ودخلوا حتّى غُرف نوم الرئيس، ولم يَقُل لنا السيّد عمر موسى أنّ فرق التّفتيش هذه كانت عشًّا للجواسيس، وعُملاء المُخابرات الأمريكيّة، وأنّ الجامعة العربيّة كانت تَقِف في خندق تدمير العِراق بشَكلٍ مُباشر أو غير مُباشر.
***
ما نُريد قوله إنّ الرئيس صدام حسين كان يعلم جيّدًا من هو أمين عام الجامعة العربيّة الذي يجلس أمامه، وما هي خلفيّته السياسيّة، واتّضحت هذه الخلفيٍة بجَلاءٍ عندما ذهب إلى باريس، أيّ السيّد موسى، وأيّد قصف طائرات النّاتو لليبيا وتدميرها وتحويلها إلى دولةٍ فاشلة فاسِدَة تُسيطِر عليها الفوضى والميليشيات، وحُكومة عيّنها حِلف الناتو تَضُم في مُعظمها مجموعةً من اللّصوص الذين سرَقوا عشرات المِليارات من ثرَواتها، وصندوق أجيالها.
مآسِي العرب كثيرة، ويَصعُب حصرها وأبرزها كَذِب السّياسيين الذين تولّوا السّلطة، أو شاركوا فيها، سواءً عندما كانوا في الحُكم، أو بعد خُروجهم مِنه، وكتابة مُذكّراتهم، ليس من أجل قول الحقائق، وإنّما تزويرها، ولهذا تتقدّم مُعظم الأمم وتتخلّف أمّتنا أكثر فأكثر.