لا تُفاجِئنا تصريحات إيلي كوهين، وزير المُخابرات الإسرائيلي، التي قال فيها “إنّ ما تشهده المنطقة العربيّة حاليًّا من عمليّاتِ تطبيعٍ يأتي في إطار تحوّلات تاريخيّة كبيرة، ومن مُنطلق قوّة اقتصاديّة وعسكريّة إسرائيليّة، وفي إطار إصرار أمريكي لتشكيل جبهة قويّة تضم كُلًّا من مِصر والسودان والبحرين والإمارات في مُواجهة محور الشّر الذي تقوده إيران وتركيا أردوغان”.
تأتي هذه التّصريحات، مع أخرى مُماثلة، نُسبت إلى الرئيس دونالد ترامب تُؤكّد أن خمس دول أوّلها السعوديّة ومن ثمّ قطر، وسلطنة عُمان، والمغرب والنيجر ستُقدّم التّطبيع هديّةً له بعد فوزه المُؤكّد في الانتِخابات الرئاسيّة الأمريكيّة التي ستَجري يوم الثّلاثاء المُقبل.
من المُؤلم أن تجاربنا في السّنوات الأخيرة تُؤكّد أنّ ما يقوله المسؤولون الإسرائيليّون حول التّطبيع مع دول عربيّة ثَبُت صحّته، ولهذا لا يُخامِرنا أدنى شك بأنّ تصريحات وزير المُخابرات الإسرائيلي كوهين المَذكورة آنفًا، ليست تنبّؤات، وإنّما ثمرة زيارات سريّة وعلنيّة قام بها إلى الرياض وأبوظبي والمنامة والدوحة أجرى أثناءها مُحادثات حول طبيعة العُلاقات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة والعسكريّة التي تدعم التّحالف العسكري الجديد، وتضع أُسسه على الأرض من خِلال مشاريع اقتصاديّة وأمنيّة مُستقبليّة.
***
فاللّافت أن المشاريع المُشتركة في هذا الإطار تتناسل هذه الأيّام بسُرعةٍ فهُناك مشروع سكك حديد أردني إسرائيلي سعودي يبدأ من جدّة وينتهي في حيفا مُرورًا بالعقبة، وآخر بحري تتسارع خطوات إنجازه يمتد من إيلات مُرورًا بجدّة وانتهاءً بميناء جبل علي في دبي تحت ذريعة نقل الحجّاج الفِلسطينيين من (عرب 48)، وثالث، بناء خط أنابيب للغاز والنفط يمتد من الخليج مُرورًا بميناء ينبع السعودي على البحر الأحمر، ومنه إلى عسقلان على شاطِئ البحر المتوسّط عبر ميناء إيلات.
جميع هذه المشاريع، وما قد يستجد غيرها يخدم الاقتصاد والأمن الإسرائيلي بالدّرجة الأولى، ويُتوّج دولة الاحتلال الإسرائيلي زعيمةً على المِنطقة، وتحت ذريعة مُواجهة الخطر التركي الإيراني، وسيكون دور الدّول العربيّة المُنخرطة في الحِلف الجديد هو دور “الكومبارس” المُموّل والرّاكع للزّعامة الإسرائيليّة الجديدة، وربّما لهذا السّبب جرى تقويض الجامعة العربيّة من الدّاخل، وتحويلها إلى نسخةٍ أكثر سُوءًا من منظّمة التّعاون الإسلامي ومقرّها في مدينة جدّة استِعدادًا لدفنها.
التّحالف العسكري والاقتصادي الإسرائيلي العربي الجديد يأتي لحل مشاكل الدولة العبريّة، وكسر عُزلتها، ونعترف بأنّنا صُدمنا من الحقائق الجديدة التي تتكشّف بشَكلٍ مُتواترٍ عن البُنود الرئيسيّة لاتّفاق التطبيع بين الجانبين الإسرائيلي السوداني أحدثها وأبرزها ترحيل أكثر من 150 ألف إفريقي مُعظمهم من السودان وأريتريا ونيجيريا إلى السودان لأنّهم يُشكّلون تهديدًا عِرقيًّا و”دينيًّا” للهُويّة اليهوديُة في دولة الاحتِلال، ويُعفيها من حرجٍ عُنصريٍّ كبيرٍ أمام الرأي العام العالمي.
حُكومة السودان وافقت رسميًّا على استقبال هؤلاء، والمُقابل ما قيمته خمسة ملايين دولا من القمح وصلت الدّفعة الأولى منها قبل أيّام، فهل هُناك هوانٌ أكثر من هذا الهوان، السودان سلّة خُبز العالم وليس المِنطقة يحتاج إلى القمح والدّقيق من “دولةٍ” لا تُنتِجُه؟
والأخطر من ذلك كلّه أنّ الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس أنّب السيّد عبّاس زكي عُضو لجنته المركزيّة وتبرّأ مِنه، وانتماءه الفِلسطيني، لأنّه انتقد التّطبيع السعودي الإسرائيلي المُتسارع وتوقّع أن تخسر السعوديّة رعايتها للحرمين الشريفين بسببه في تصريحاتٍ أدلى بها لقناة “الميادين” أكّد في بيانٍ رسميٍّ أنّه لا يُمَثِّل إلا نفسه، هل هذا يُعقَل من شخصٍ يقول إنّه رئيسُ شعبٍ يَدفَع من دَمِ شُهدائه وجرحاه ثمن هذه الخِيانة؟
فإذا كان رئيس السّلطة، والمنظّمة، وقوّات التحرير الفِلسطينيّة، وحركة “فتح” “ينتفض” بهذه الشّراسة انتصارًا للسّلطة السعوديّة، زعيمة موجة التّطبيع في الوطن العربي، والدّاعمة الرئيسيّة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي الجديد في المِنطقة، لماذا نلوم غُلاة المُطبّعين؟
لا نَعرِف ما هي نوعيّة حُبوب الهلوسة والتّخدير التي وزّعتها الولايات المتحدة على هذه الحُكومات لكيّ “تَبصُم” على هذا المُخطّط التّطبيعي المُهين، وتُسلّم “رسنها” بالتّالي إلى بنيامين نِتنياهو لكيّ يقودها إلى الهاوية وهي مفتوحة العينين؟
فهل الرّكوع تحت أقدام نِتنياهو الذي يحتل الأرض والمقدّسات ويرتكب المجازر في حقّ عرب ومُسلمين، مسلوبة حُقوقه في الأراضي المحتلّة، “أشرف” من الحِوار والتّقارب مع إيران وتركيا الدّولتين المُسلمتين اللّتين هدَتهم الدّعوة المُحمّديّة وشُعوبهم إلى الإسلام؟
ألا تُدرِك دولة مِثل مِصر أنّ جميع مشاريع التّطبيع هذه ستأتي على حِسابها، وتهديدًا لأمنِها القوميّ، ومكانتها الرياديّة والقِياديّة؟ ألا تُدرِك القيادة الأردنيّة أيضًا أنّ الخطوة القادمة بعد التّطبيع هي إقامة “الوطن البديل” وترحيل أكبر عدد مُمكن من الفائض السكّاني في الضفّة المُحتلّة إلى أراضيها؟
***
إنّه أمرٌ مُعيبٌ أن ينتصر مُعظم قادة العالم الإسلامي للرّسول محمد صلى الله عليه وسلم، وينتَفِضون وشُعوبهم دِفاعًا عنه في مُواجهة تطاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بينما يلتزم قادة “جميع” الدّول المُطبّعة الصّمت، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشّريفين ووليّ عهده؟
نِتنياهو الذّاهب إلى السّجن في غُضونِ أشهرٍ لن يُوفّر الحِماية لتابعيه العرب الجُدد، لأنّه لا يستطيع حِماية نفسه، ولكن ما هو أخطر من ذلك أنّه يستخدمهم كأدوات لتدمير الزّعامة العربيّة للعالم الإسلامي، والتّمهيد لنزعِ رعايتهم للحرمين الشريفين في مكّة والمدينة، ناهِيك عن نهب ثروات مُواطنيهم وأجيالهم القادمة مُقابل هذه الحِماية الوهميّة من خطرٍ وهميٍّ.
هنيئًا لتركيا وإيران وباكستان هذا المُثلّث الصّاعد بزعامة العالم الإسلامي وقِيادة الأمُة، فهُم أحق بهذه القِيادة في ظِل قِيادات عربيّة مُرتدّة قَبِلَت أنْ تتخلّى عن كُل واجِباتها، وتتحوّل إلى حملانٍ وديعةٍ ترعى في مزرعة نِتنياهو وترامب في انتظارِ الذّبح.. وهو آتٍ حتمًا للأسف.. والأيّام بيننا.