عبد الباري عطوان
من أهم إنجازات فوز جو بايدن وهزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة الأخيرة، أنّنا لن نرى وجه جاريد كوشنر ورهطه في السّنوات الأربع المُقبلة على الأقل، فهذا الصّهر، تلميذ نِتنياهو وعرّاب مسيرة التّطبيع، وحلب الأموال العربيّة، سيختفي عن الأضواء، أو هكذا نأمل، بغضّ النّظر عمّن يخلفه، والسّياسات التي سيتّبعها في المنطقة.
كوشنر الذي كرّس عُلاقاته كصهر لأكثر الرؤساء الأمريكيين انحيازًا ودعمًا للحركة الصهيونيّة وحُروبها ومجازرها في المنطقة العربيّة والشّرق أوسَطيّة، وحِقدًا على العرب المُسلمين، سيزور المملكة العربيّة السعوديّة وقطر بعد بضعة أيّام بذريعة مُحاولة تحقيق مُصالحة بين البلدين قبل مُغادرته وحماه ترامب البيت الأبيض مطلع العام المُقبل.
لا نعتقد أنّ هذا الصّهر يَحرِص على اتّخاذ أيّ خطوة يُمكِن أن تَخدِم بعض العرب في جولته الوداعيّة الأخيرة، والخليجيين منهم بالذّات، لأنّ هدفه الأسمى كسر عُزلة دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وتكريس زعامتها للأمّة العربيّة وتصفية القضيّة العربيّة الفِلسطينيّة، وزيادة حجم الكراهية للشّعب الفِلسطيني، واقتِياد أكبر عدد مُمكن من الحُكومات إلى حظيرة التّطبيع، ووجود أكبر شخصيّتين كارهتين للعرب في وفده المُرافِق مِثل أفي بيركوفيتش، مُستشار الرئيس ترامب لشُؤون الشّرق الأوسط، وبريان هوك، المبعوث السّابق لإيران، يُؤكّد هذه الحقيقة.
أن تأتي توقيت هذه الزّيارة بعد أقل من أسبوعٍ من إقدام “الموساد” الإسرائيلي وعُملائه على اغتيال العالم النّووي الإيراني محسن فخري زادة، يَشِي بأهدافها، أيّ مُحاولة توسيع دائرة التّحالف الإسرائيلي مع الدّول العربيّة وتحشيده للمُشاركة في حُروبٍ أو أعمال إرهابيّة ضدّ إيران ودول وفصائل محور المُقاومة، فالشّغل الشّاغل لإسرائيل التي يُمثّلها ومصالحها في هذه الزّيارة تدمير إيران ومُنشآتها النوويّة قبل وصول الرئيس بايدن إلى السّلطة.
***
كُلّ التّسريبات التي نشرتها صُحف أمريكيّة مِثل “وول ستريت جورنال”، صحيفة ترامب المُفضّلة، عن عزم كوشنر وفريقه تحقيق المُصالحة بين السعوديّة وقطر هو كذب وافتراء وتضليل لإخفاء الهدف الرئيسي من هذه الزّيارة المذكورة آنفًا ،أيّ ضرب إيران، بشَكلٍ جراحيٍّ محدود أو شامِل في الأسابيع المُقبلة، وذلك للأسبابِ التّالية:
الأوّل: أنّ كوشنر وطِوال السّنوات الأربع الماضية من وجوده، وحماه في البيت الأبيض، لم يقم بأيّ مُحاولات جديّة للمُصالحة، وإذا كان يُريدها فلماذا تَذكرّها قبل 6 أسابيع من مُغادرة السّلطة؟
الثّاني: إذا كان فِعلًا يُريد هذه المُصالحة فلماذا لم تشمل زيارته الدّول الثّلاث الأُخرى شريكة السعوديّة في الخُصومة مع دولة قطر، وهي مِصر ودولة الإمارات العربيّة المتحدة والبحرين في جولته القادمة هذه؟
الثّالث: مُحاولة حَلّ الخِلاف الخليجي بشقّيه القطري السّعودي بمَعزلٍ عن الأطراف الأخرى، يعني بَذر بُذور الشّقاق في المحور المُعادي لقطر، اللهمّ إلا إذا كان كوشنر يعلم جيّدًا أنّ السعوديّة تُريد فك تحالفها مع الإمارات ومِصر وربّما دولة البحرين، وتُريد الانضمام إلى التّحالف القطري التّركي، أو يدفع هو شخصيًّا بهذا الاتّجاه، وهذا احتمالٌ غير واقِعيّ.
الرابع: ما يشغل المنطقة الخليجيّة، والشّرق أوسَطيّة، هذه الأيّام ليس المُصالحة الخليجيّة وإنّما حالة التوتّر القُصوى المُتصاعِدَة حاليًّا بسبب الاعتِداء الإسرائيلي على إيران والرّد الإيراني المُتوقّع والحتميّ، الذي قد يُشعِل فتيل حرب إقليميّة عُظمى، فمِنَ الغباء الحديث هذه الأيّام عن مُصالحةٍ في وقتٍ تتَدفّق فيه حاملات الطّائرات والسّفن الحربيّة الأمريكيّة إلى مياه الخليج، جنبًا إلى جنبٍ مع القاذِفات العِملاقة “B52”.
الخامس: من غير المُستَبعد أنّ اقتِصار زيارة كوشنر إلى “نيوم” والدوحة حيث تُوجَد في بلديهما أكبر القواعد العسكريّة الأمريكيّة يعود إلى إبلاغ حُكومتيّ البلدين بمُخطّطات ضرب إيران انطِلاقًا من هذهِ القواعد.
الأعيُن يجب أن تتوجه حاليًّا إلى اللقاء الذي من المُفترض أن يُعقَد بين كوشنر والأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، في مدينة “نيوم”، فهل سيقتصر هذا اللّقاء على الرّجلين ووفديهما فقط، أم سينضم إليه كُل من بنيامين نِتنياهو ورئيس جهاز “الموساد” يوسي كوهين اللّذين حضَرا الاجتماع الأخطر قبل أسبوع في المكان نفسه بمُشاركة مايك بومبيو وزير الخارجيّة، وهو الاجتماع الرّباعي الذي قيل إنّه وضع خطّة حرب الاغتِيالات، وتدمير المُنشآت النوويّة الإيرانيّة لجَرّ القِيادة الإيرانيّة إلى الرّد، وبالتّالي الوقوع في مِصيَدة التّدمير الشّامل؟
تقرير صحيفة “الفاينناشال تايمز” الذي يقول إنّ هدف جولة كوشنر الأبرز هو تحقيق المُصالحة الخليجيّة، يَعكِس جَهلًا فاضِحًا بفهم التطوّرات السياسيّة في المنطقة حاليًّا، فلماذا يُقدّم الصّهر الأمريكي على هذه الخطوة الذي يُريد الأمير بن سلمان تقديمها هديّةً للرئيس الجديد الذي يُعتبر إفشاله من أبرز أهداف إدارة ترامب الرّاحلة؟ الأمير بن سلمان قاوم ضُغوطً كبيرةً من إدارة ترامب للتّطبيع، والمُصالحة، خوفًا ممّا يُمكِن أن يترتّب عليهما من أخطار، مُضافًا إلى ذلك أنّه يُدرك أنّ التّطبيع مع إسرائيل، أو المُصالحة مع قطر لن يدفعا بايدن إلى التخلّي عن خططه بالعودة إلى الاتّفاق النّووي الإيراني، وفتح مِلَف انتِهاك حُقوق الإنسان السّعودي، ووقف صفقات الأسلحة، لإجبار السعوديّة على وَقفِ حرب اليمن.
***
كوشنر، وباختصارٍ شديد جاء يبحث عن مُستقبله ومصالحه الماليّة والتجاريّة في المنطقة، واستِثمار إنجازاته التّطبيعيّة في هذا الإطار، وكُل حديث غير ذلك يَعكِس قراءةً غير دقيقة لواقع المنطقة وتَطوّراتها، ثمّ لماذا يُقدّم قادة السعوديّة وقطر تنازلات لصِهر فاشل سيُغادِر السّلطة بعد 6 أسابيع، وهُم الذين لم يُقدّموها لأمير الكويت الرّاحل الذي كرّس السّنوات الثّلاث الأخيرة من عُمر الأزمة الخليجيّة لإيجاد حلٍّ لها، وكانت صُعوبة هذه المَهمّة وتعقيدات الخِلاف أحد أبرز الأسباب لمَرَضِه وانتِقاله إلى جوارِ ربّه بالتّالي.
كوشنر، وصفقة قرنه، واتّفاقات التّطبيع التي هندسها لمصلحة إسرائيل في الوقت الضّائع لإدارة ترامب، هي أكبر كارثة حلّت بحُلفائه الخليجيين، ستظهر آثارها السلبيّة في الأشهُر والسّنوات المُقبلة.. والأيّام بيننا.