عبد الباري عطوان
توقّعنا حُدوث الكثير من المُفاجآت الصّادمة في زمنِ التّهافت “الحُكومي” العربيّ على التّطبيع مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، ولكن لم يَخطُر ببالنا مُطلقًا أنْ يزور وفد من مُواطني دولة الإمارات العربيّة المتحدة المسجد الأقصى في القدس المحتلّة، ويُصلّون فيه تحت حِماية قوّات الأمن الإسرائيليّة التي فتَحت لهم المسجد المُغلق خِصّيصًا لتحقيق رغبتهم هذه، فقد جرت العادة على مدى 70 عامًا من الاحتِلال، أن تتم مِثل هذه الزّيارات، رغم “التحفّظات” عليها، تحت حِماية أشقّائهم العرب، وبزعامة الأئمة وترحيبهم، ولكنّ اتّفاقات السّلام “المُزوّر” و”المُظلّل” قلبَت كُل الاعتبارات، وجعلت من العدو العُنصري الإرهابي صديقًا، والشّقيق الضحيّة عدوًّا، في غُضون أيّامٍ مَعدودةٍ.
لا نفهم هذا “الفُجور” في التّهافت على التّطبيع والرّكوع تحت أقدام المُحتل الإسرائيلي، والمُبالغة لدرجة الاستِفزاز في التمسّح به والتنكّر للأُخوّة في العُروبة والعقيدة بفجاجةٍ غير مسبوقة، ممّا يُوحي بأنّ كُلّ المشاعر الوطنيّة السّابقة العدائيّة تُجاه الاحتِلال وجرائمه لم تَكُن صادقةً في مُعظَمها.
تفاءلنا قليلًا بتحذير الدكتور عبد الخالق عبد الله، أحد أبرز مُستشاري حُكومة الإمارات، عندما انتقَد هذا التّهافت في تغريدةٍ، وحذّر من هذه المُبالغة في التقرّب من الإسرائيليين، ولكن تفاؤلنا هذا لم يَكُن في محلّه على الإطلاق، فيبدو أنّ التّطبيع، ومن ثمّ التّحالف الأمنيّ والعسكريّ المُعادي للعرب، يَنطَلِق من استراتيجيّةٍ مدروسةٍ، وإشْهارًا لعُلاقاتٍ “سريّةٍ” عميقةِ الجُذور وتمتدّ لسنواتٍ.
***
حُكومة الإمارات قالت لنا، ولشعبها، إنّ اتّفاق السّلام مع “إسرائيل” جاء مُقابل وقف جميع إجراءات ضمّ أجزاء من الضفّة وغور الأردن، ولم يكتفِ بنيامين نِتنياهو، الصّديق الجديد القديم، بنَفِي هذا الرّبط، مُؤكّدًا أنّ مشروع الضّم “تأجّل” فقط، ولم يُلغَ، ومِن المُفارقة أنّه أعلن أمس عن بناء 5000 وحدة سكنيّة استيطانيّة في اليوم الذي يُناقش فيه الكنيست التّصديق على اتّفاقِ السّلام الإماراتي، ويُقرّه بالإجماع.
الإسرائيليّون، حُكومةً وشعبًا، يَحتقِرون العرب والمُسلمين، وخاصّةً المُطبّعين الرّسميين من بينهم، ويأخذون ولا يُعطون، ويكفي الإشارة والتّذكير بأنّهم جادلوا الخالق ونبيّه موسى على بقرةٍ ولونها لسنواتٍ عديدة؟ فكيف سيكون الحال في تعاطيهم مع أصدقائهم الجُدد؟
المِصريّون لم يُلبّسوا أطفالهم قُمصانًا تحمل صُور الأعلام الإسرائيليّة، وكُل مِصري يطرق باب السّفارة الإسرائيليّة طلبًا لـ”فيزا” يتعرّض للاعتقال فَورًا، ويُواجه كُل العُقوبات بتُهمة الخِيانة، وظلّ الشّعب المِصري إلى اليوم، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا يعتبر دولة الاحتلال العدوّ الأوّل.
الأردنيّون وقّعت حُكومتهم اتفاقيّة وادي عربة المُهينة المُذلّة، ولكنّنا لم نقرأ أو نسمع افتتاح مطعم “كوشر” إسرائيلي يهودي في قلب العاصمة الأردنيّة، أو استِضافة أيّ فنانين أو أُدباء إسرائيليين، واتّفاق استِيراد الغاز الذي تعتبر وصمة عار يتَرنّح ولن يُعَمِّر طويلًا.
الأجواء جرى فتحها على مِصراعيها هذه الأيّام أمام الطّائرات المدنيّة الإسرائيليّة، والعسكريّة لاحقًا، وها هي السّفن البحرينيّة والإماراتيّة تتقاطر إلى ميناء حيفا لإفراغ حُمولتها، وغدًا سترسو نظيراتها الإسرائيليّة في ميناء جبل علي ومينائي الفجيرة والمنامة، لتكون محطّةً لإعادة تصدير البضائع والمَنتوجات الإسرائيليّة إلى الدّول العربيّة، وربّما شرق آسيا بأسْرِه بعد تغيير اسم دولة المَنشأ في دَعمٍ حماسيٍّ للاقتِصاد الإسرائيليّ المَأزوم.
آخِر المُفاجآت الأكثر استفزازًا ليس تقاطر الكتّاب والمسؤولين الخليجيين للحديث أو الكتابة في وسائل الإعلام الإسرائيليّة، وشيطنة الضّحايا الفِلسطينيين والسّخرية من حقّ العودة، وإنّما أيضًا تأكيدهم على أنّ الهدف من اتّفاقات “السّلام” هو مُحاربة التطرّف ومُكافحة “الإرهاب”، والمقصود هُنا هو مُقاومة الاحتِلال العربي الإسلامي، وكأنّ إسرائيل “حمل وديع” لم ترتكب المجازر في الضفّة والقِطاع وجنوب لبنان، وبحر البقر في مِصر، والقنيطرة في سورية.
***
خِتامًا نقول، طبّعوا كيفما شئتم، وهنيئًا لكُم حلفاؤكم الجُدد، ولكن كُفّوا عن المُبالغة بهذا الغرام تُجاههم، حِفاظًا على ما تبقّى من عُروبتكم، وعقيدتكم الإسلاميّة، واتركوا خَطًّا للرّجعة، لأنّ هذه الاتّفاقات ستَسقُط حتمًا، وتذكّروا أنّ الشّعب الموريتاني الشّقيق لم يَكتفِ بغلقِ السّفارة الإسرائيليّة في عاصمة بلاده، بل قام بهدمها، واقتِلاعها من جُذورها، ولم يبقَ لها أيّ أثر.
القدس وكُل إرثها العربيّ والإسلاميّ والإنسانيّ ستعود إلى أصحابها العرب، وسيكون الأقصى مفتوحًا “لكلّ الأشقّاء” ودُون أيّ قُيود “يرونها بعيدةً ونراها قريبةً”.. والأيّام بيننا.