تَعكِس وقائع الزّيارة الثانية في غُضون شهر للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان مدى حنين مُعظم المسؤولين اللّبنانيين والعرب للمُستعمر الأجنبي، واستِعدادهم للرّضوخ لإملاءاته، والتِزامهم الفوريّ بتطبيقها، وإسقاط كُل الاعتِبارات المُتعلّقة بالسّيادة الوطنيّة.
ماكرون زار لبنان في المرّتين “ككفيلٍ” و”صاحب العمل”، اختار رئيس الوزراء وربّما مُعظم الوزراء أيضًا، وهدّد من يدّعون أنّهم قادة لبنان وأحزابه وطوائفه بأنّه إذا لم تُشَكَّل هذه الوزارة في غُضون أُسبوعين فإنّه سيَفرِض عُقوبات على المُعرقلين للإصلاح مهما علا شأنهم.
جميع الكُتل البرلمانيّة وافقت فورًا، ودون تأخير على اختيار السيّد مصطفى أديب رئيسًا جديدًا للوزراء، وذابت جميع الشّروط التي كانت تُعرقِل تشكيل الحُكومات السّابقة، وبات الجميع يطلب رضا رئيس الوزراء الجديد، لأنّه اختيارٌ فرنسيّ، ويحظى بدعمِ الرئيس ماكرون، والكفاءة تظل عامِلًا ثانويًّا.
ولأنّ مُعظم النّخب السياسيّة اللبنانيّة غارقةٌ في الفساد حتّى أُذنيها، فكان مِن الطّبيعي أن تخشى العُقوبات، لأنّ مِلياراتها ومَلايينها سواءً المُودعة في الخارج، أو التي جرى تهريبها مُؤخّرًا إلى بُنوكٍ سويسريّة وفرنسيّة ستتعرّض للتّجميد وربّما المُصادرة.
***
لبنان كان دائمًا ساحةَ صراعٍ بين القِوى الإقليميّة والدوليّة المُتنافسة على النّفوذ، ولكنّ هذه الزّيارات المُتتالية (الثّالثة ستكون قبل نهاية العام) للرئيس ماكرون تُؤكّد أنّ هذا الصّراع سيتصاعد في الأشهر والسّنوات المُقبلة، ويبدو أنّ الرئيس الفرنسيّ سجّل هدفًا مُهِمًّا في مرمى القِوى الأُخرى المُنافسة، وخاصّةً تركيا وإيران والمملكة العربيّة السعوديّة.
هذا “الإنجاز” الفرنسيّ ما كان يُمكن أن يتَحقّق لولا لقاء الرئيس ماكرون مع السيّد محمد رعد رئيس كُتلة “حزب الله” البرلمانيّة، أُسوةً بالمَسؤولين مِن الطّوائف الأُخرى ممّا يعني رفع الفيتو على الحزب، وإسقاط كُل شُروط ومُطالبات نَزعِ سِلاحه، والتّعاطي معه كجُزءٍ أساسيٍّ في النّسيج السياسيّ والاجتماعيّ اللبنانيّ.
كان لافتًا أنّ الرئيس ماكرون طالب بنظامٍ سياسيٍّ جديد في لبنان، وهذا يعني إلغاء اتّفاق المُحاصصة الطائفيّة في “الطّائف” بطَريقةٍ أو بأُخرى، ولكنّه لم يَكشِف عن طبيعة النّظام البديل”، ولعلّه يتبلور في الكشفِ عن مضمون بُنود خريطة الطّريق التي بَشّرَ بها، وتبدأ بتشكيلِ الحُكومة الجديدة.
مُعظم التوتّرات التي سادت لبنان قبل وصول الرئيس ماكرون، بِما في ذلك الاشتِباكات، والاحتِجاجات، التي أثارت المخاوف بحُدوث فراغٍ سياسيّ، أو حتّى اشتِعال فتيل الحرب الأهليّة، ربّما كانت مقصودةً ومُتعمّدةً لتخويف اللّبنانيين والتّمهيد لتطبيق خريطة الطّريق هذه وفق خطوات مُتدرّجة، والتّلويح بنظريّة الجزرة والعصا لفرضها، الجزرة تتمثّل في المُساعدات الماليّة، والعصا بربطِ هذه المُساعدات بالإصلاح والتّهديد بفرض العُقوبات على رموز القِطاع السّياسي الفاسدة.
ماكرون يأتي إلى لبنان وعينه على مُنافسه الأكبر، أيّ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الذي أرسل نائبه فؤاد أقطاي إلى بيروت حامِلًا عُروضًا بإعادة إعمار مرفأ بيروت والمباني المُجاورة له، ووضع ميناء مرسين التركيّ القريب في خدمةِ اللّبنانيين حتّى يتم الانتهاء من ترميم مرفأ العاصمة، والأهم من ذلك عرضًا “ملغومًا” بتجنيس جميع اللّبنانيين من أُصولٍ تركيّة.
الحرب “الباردة” بين أردوغان وماكرون المُشتعلة في شرق المتوسّط، وخاصّةً في ليبيا ومِياه قبرص واليونان حيث الثّروات الغازيّة والنّفطيّة الهائلة، في طريقها للانتقال إلى لبنان، ومن غير المُستبعد أن تتحوّل إلى مُواجهاتٍ عسكريّة في ظِل حالة الاستِقطاب التي تُصَعِّد التوتّر في مِنطقة شرق المتوسّط برمّتها وتنتظر عُود الثّقاب.
الرئيس أردوغان بات جارًا للبنان بحُكم وجود قوّاته في إدلب وشمال سورية، ومثلما نصّب نفسه زعيمًا للطّائفة السنيّة السوريّة، فلماذا لا نَستبعِد السّير على الطّريق نفسه مع نظيرتها في لبنان، وهي الطّائفة التي تخلّت عنها السعوديّة بطَريقةٍ أو بأُخرى، وانشغلت عنها مِصر بأزماتها الاقتصاديّة، وأنهكت الخِلافات والانقِسامات قيادتها السياسيّة.
مولود جاويش أوغلو وزير الخارجيّة التركيّ الذي رافق السيّد أقطاي في زيارته لبيروت، قال عبارةً تُلخِّص حقيقة الصّراع التركيّ الفرنسيّ عِندما قال “حيث يُرفرِف أيّ علم فرنسي، سيكون قُبالته علم تركيّ”، ومِن المُؤكّد أنّ هذه القاعدة تعني أنّ أعلامًا كثيرة تُركيّة وفِرنسيّة ستُرفرِف على الأراضي اللبنانيّة في المرحلةِ المُقبلة.
***
ماكرون يقود هذه الأيّام حملةً شرسةً ضدّ تركيا ويعتبرها العدوّ الأكبر، واتّهم نظيره أردوغان في حديثٍ لمجلّة “باري ماتش” بأنّه ينتهج سياسة توسّعيّة تمزج بين المبادئ القوميّة والإسلاميّة، ولا تتّفق مع المصالح الأوروبيّة، وتُشَكِّل عاملًا مُزعزِعًا للاستِقرار”، وزياراته المكوكيّة المُفاجئة للبنان لا يُمكن النّظر إليها إلا من هذا المِنظار.
السّؤال الذي يطرح نفسه هو عن غِياب صوت المحور الإيراني في هذا الصّراع، فهل هذا الصّمت على ما يجري على السّاحة اللبنانيّة والصّراع الفرنسي التركي على وجه الخُصوص، تكتيكيّ أمْ استراتيجيّ، وفي أيّ خندق سيَقِف هذا المحور في الأيّام المُقبلة.
أهل مكّة أدرى بشِعابها، ولعلّنا نسمع إجابةً عن هذه التّساؤلات في الأيّام والأسابيع المُقبلة نظريًّا أو عمليًّا، فحالة “التّوافق” الحاليّة تَستعصِي على الفهم، وربّما الاستِمرار أيضًا بالنّظر إلى تعقيداتِ السّاحة اللبنانيّة وإرث الصّراعات فيها، وعلى أيّ حال لا نملك غير المُتابعة والانتِظار.