عبد الباري عطوان
يَصعُب علينا إن نفهم “حالة الهوس” السّائدة حاليًّا في الأوساط “النخبويّة” السياسيّة الفِلسطينيّة الحاكمة، في الضفّة والقِطاع، أو تلك التي تعيش على هوامِشها، والمُتعلّقة بالانتِخابات الثلاثيّة، التشريعيّة (المجلس التّشريعي والمجلس الوطني) والرئاسيّة، غير أنها مُحاولة جديدة لإلهاء الشّعب الفِلسطيني، وحَرفِه عن جوهر قضيّته وكيفيّة استِرداد حُقوقه، وتطبيعه للقُبول بالوضع الرّاهن المُزرِي بشقّيه الدّاخلي والخارجي تحت ذرائع مُختلفة.
لن نُغرِق هُنا ونُغرِق القارئ الكريم معنا في البحث، والتّنظير، والأدبيّات والتّبريرات العقيمة، ونذهب إلى لبّ الحقيقة مُباشرةً، ونقول بالخطّ العريض أنّ أيّ سُلطة أو قيادة، تأتي بها هذه الانتِخابات في نهاية المطاف سيكون سقفها الاحتِلال، واتّفاقات أوسلو، واستِمرار، بل وتعميق التّنسيق الأمني، وسِياسات الاستِيطان والضّم دُون إعلان، وبمُباركةٍ فِلسطينيّة غير مُباشرة، مع بعض الصّراخ المُهين، وغير المَسموع في المنظّمات والمنابر الدوليّة، وتثبيت الوضع الرّاهن بالتّالي تمهيدًا للانطِلاق لتطبيق الحلقات الأُخرى للمشروع الصّهيوني.
لنكون أكثر صراحةً، ونُؤكّد بأنّ هذه الانتِخابات لن تتم إلا إذا كانت نتائجها معروفة مُسبَقًا، أيّ التّعايش مع الاحتِلال، والقُبول بإملاءاته، وإسقاط كلمات مِثل “التّحرير” و”المُقاومة” من كُل قواميس من يدّعون تمثيل الشّعب الفِلسطيني، سواءً كانت من عنديات تنظيم فائز، أو شراكة ائتلافيّة مُتوقّعة ومُنبَثِقَة عن اتّفاقات مُصالحة ثُنائيّة، أو لقاءات حِوار القاهرة.
***
فعندما يُؤكّد الدكتور رئيس الوزراء الفِلسطيني محمد اشتية بالصّوت والصّورة، على أحد الشّاشات التلفزيونيّة بأنّ الرئيس محمود عبّاس البالغ من العُمر 86 عامًا، ويُعاني من “موسوعة” من الأمراض (شفاه الله)، أنّه مُرشّح حركة “فتح” الوحيد في الانتِخابات الرئاسيّة فماذا نتوقّع من هذه الانتِخابات، رئاسيّة كانت أو تشريعيّة، غير المزيد من الإذلال والخُنوع لإملاءات دولة الاحتِلال، وسيطرتها، وخططها لتذويب القضيّة الفِلسطينيّة، وتعميق أكبر لسِياساتها العُنصريّة، وتهويد كُل فِلسطين، وتحويل شعبها إلى عبيدٍ مَهمّتهم خدمة الاحتِلال، وبطَريقةٍ اسوأ من وضع الهُنود الحُمر، والأفارقة في جنوب إفريقيا العُنصريّة.
نعيش في الغرب مُنذ أربعين عامًا، ونُتابع الانتخابات التشريعيّة ونُشارك فيها، ونعرف مُسبَقًا البرامج الانتخابيّة للأحزاب المُتنافسة على السّلطة، ومن أجل خدمة ناخبيها، والمصلحة الوطنيّة للبِلاد، ومن هذا المُنطَلق نسأل وبكلّ سذاجةٍ، ما هو البرنامج الانتِخابي لحركة “فتح” في هذه الانتِخابات، باعتِبارها السّلطة الحاكمة؟ هل سيَنُص صراحةً على إلغاء اتّفاقات أوسلو وكل ما يتفرّع عنها، وسحب الاعتِراف بإسرائيل، وإلغاء التّنسيق الأمني، وهي بُنود تبنّاها المَجلِسان الوطني والمركزي المَنزوعان من أيّ مُعارضة حقيقيّة، أو حتى صُوريّة، ويُدينان بالولاء للرئيس عبّاس شخصيًّا لأنّه هو الذي اختار مُعظم أعضائهما فردًا فردًا من أجل هدف وحيد وهو “التّسحيج” وقوفًا لكُلّ فَقرةٍ من خِطابه.
نسأل أكثر حركة “حماس” التي قَبِلَت أن تكون شريكًا “استراتيجيًّا” لحركة “فتح” في هذه الانتِخابات التي سيخوضانها معًا في قائمةٍ مُشتركة: أين كُل الشّعارات التي استشهد من أجلها آلاف الكوادر، وتسبّبت بأربع حُروب في قِطاع غزّة دمّرت أكثر من مِئة ألف منزل ما زالت على حالها، مِثل تحرير كُل فِلسطين من النّهر إلى البحر، وإدانة اتّفاقات العار في أوسلو، وتخوين كُل من وقّعها وأيّدها؟ وهل ستقبل إسرائيل أن تُشارك الحركة في الانتِخابات والمجلس التّشريعي الذي سيتمخّض عنها، والحُكومة الائتلافيّة التي ستتشكّل وتُوزّع مقاعدها على أساسها، ويكون التّنسيق الأمني وبرئاسة “ماجد فرج” حمساوي هو عمودها الفِقري؟ ومن الذي سيصيغ برنامجها الانتِخابي، قادة الخارج أمْ عناصر ورُموز الجناح العسكري تحت الأرض في غزّة.
نَستغرِب، ونحن نُتابع زيارة السيّد حسين الشيخ للمُناضل الأسير مروان البرغوثي في سجنه مبعوثًا من الرئيس عبّاس وقُبول الأخير لها، ودُخوله في “مُساومةٍ” معه حول بُنود الصّفقة المسمومة التي كان يَحمِلها، وأبرزها التعهّد بعدم الترشّح في الانتِخابات الرئاسيّة وترؤّس قائمة “فتح” في المجلس التّشريعي، وبعض المزايا الماديّة الأُخرى، ماذا كان سيَخسَر المُناضل الأسير الشّريف البرغوثي لو رفض هذا اللّقاء.
الأسير البرغوثي كان يَجِب أن يَرفُض الانخِراط في هذه المُساومة، واتّفاقات أوسلو، وأن يتزعّم المُعارضة الفتحاويّة، وينطق باسم كُل الفِلسطينيين، لا أن يقبل حصره في تنظيم “فتح” فقط، والإصرار على برنامج إصلاح توحيدي فِلسطيني مُوسّع، على أرضيّةٍ سياسيّةٍ وأيديولوجيّةٍ تُنهي هيمنة “العواجيز” الذين انتهت صلاحيّتهم، وتصعيد القِيادات الشابّة التي نرى رُموزها تُقاوم الاحتِلال بشَراسةٍ، ولا تتردّد في الشّهادة انتصارًا لعدالة قضيّتها، وإذا أراد منصبًا قياديًّا فليَكُن زعامة منظّمة التحرير، وليتّخذ من رئيسه ياسر عرفات قدوةً وهو الذي مسَح كُل ذُنوبه الأوسلويّة بإطلاق شرارة الانتِفاضة الثّانية، ودفع حياته ثمنًا لهذا الخِيار.
***
هذه الانتِخابات، وبالشّروط الإسرائيليّة والأمريكيّة التي ستتم على أساسها، هذا إن تمّت، ستكون أخطر على القضيّة الفِلسطينيّة من اتّفاقات أوسلو، لأنّها لن تأتي تكريسًا لها فقط وإنّما لاتّفاقات التّطبيع، الحاليّة القادمة، وتطبيقًا للشّق الأهم للمشروع التّوسّعي العُنصري الإسرائيلي، وتمهيدًا لتطبيق حُلُم إسرائيل الكُبرى مِن النّيل إلى الفُرات.
اتّفاقات أوسلو قضت على منظّمة التحرير وحوّلتها إلى يافطة ودجّنت حركة “فتح”، ونخشى أن تُؤدّي الانتِخابات القادمة إلى قِيادة حركة “حماس” إلى النّهاية نفسها، وأحسنت حركة “الجهاد” والجبهة الشعبيّة النّأي بالنّفس عنها.. والأيّام بيننا.