بقلم - عبد الرحمن الراشد
الاتفاق النووي (JCPOA) الذي وقعه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وخمس حكومات غربية أخرى، مع نظام إيران، سيظل محل نقاش طويل ولسنين مقبلة. هل ولد من ضرورات الاعتراف بالواقع النووي الذي حققته إيران، أم أنه نتيجة لعملية قيصرية لمفاوضات سيئة غير كفؤة؟
دينيس روس، دبلوماسي عريق يعرف المنطقة، وسبق أن عمل في إدارة أوباما، يرى العالم أفضل بوجود الاتفاق، ويعتقد أن الفوضى وقعت مع تسلم دونالد ترمب الرئاسة، وشنه حرباً على الاتفاق. ربما هناك آراء تختلف على الاتفاق، هناك من يمدحه ويرى أنه يقيد مشروع إيران العسكري النووي، وهناك من ينتقده لأنه ترك المنطقة مسرحاً لنظام طهران الذي دمرها.
في نظري الاتفاق نووياً له إيجابياته؛ لكن لا يمكن تبرئة الاتفاق من جرائم إيران. فالمفاوضون بكل أنانية فكوا قفل العقوبات لقاء وقف التخصيب. فجأة وجدت طهران الباب مفتوحاً، وتسللت إلى خارج القفص. الآلاف من قواتها ومقاتلي ميليشياتها انتقلوا للحرب في الخارج. انهار السد الدولي الذي أسس للعقوبات الاقتصادية والعسكرية، انتهت الحدود المرسومة في الرمل، وكانت تحدد مواقف دول المنطقة والعالم من تصرفات إيران.
النظام الإقليمي انهار في اليوم الذي رأينا فيه وزير خارجية إيران يقفز من الفرح، ممسكاً بأوراق الاتفاق، من شرفة غرفته في فندق «بالاس كوبورغ» في العاصمة النمساوية. خلال التفاوض وبعده انتشرت قوات إيران بشكل غير مسبوق في المنطقة، بعد أن كانت تكتفي بالعمل في محيط لبنان وغزة. صارت تملك أكبر قوة على الأرض في سوريا، وقياداتها تظهر تقود المعارك في العراق، وتطلق صواريخها على جدة ومكة والرياض، وعززت سيطرتها السياسية في لبنان.
ما يراه روس من تنمر جريء من إيران في عهد ترمب، مثل إطلاقها صواريخ وإرسالها طائرات «درون» في فضاء إسرائيل، وصواريخها باتجاه المدن السعودية، أنه كان ردة فعل إيرانية على مواقف ترمب العنيفة ضد طهران. الحقيقة التي نراها هنا من داخل المنطقة تقول عكس ذلك. جزء أساسي من رفع إيران مستوى المواجهة هو الضغط على إدارة ترمب، وذلك على غرار ما كانت تفعله مع إدارة أوباما، التي كانت تتراجع أمام كل أزمة مع نظام طهران، الذي وجد أنه يستطيع أن يبتزها بالتصعيد في العراق وسوريا، ووصل الأمر إلى درجة اعتقال البحّارة الأميركيين ثم إطلاق سراحهم بإذلال مهين.
صحيح أن ترمب اختار ألا يحارب الإيرانيين عسكرياً في سوريا؛ لكنه نجح في بناء تحالف سياسي وعسكري للضغط على إيران، بعدما كان الإيرانيون يحتفلون واثقين بأنهم كسبوا الحرب نهائياً في سوريا. ترمب فتح المجال لإسرائيل، ودعم الجماعات المعارضة المسلحة السورية، وضغط على روسيا، وحذر نظام الأسد بأنه لن يبقى إن بقي الإيرانيون وميليشياتهم في سوريا.
هكذا فتحت أبواب جهنم على إيران ووكلائها في العراق وسوريا وغزة واليمن، المناطق التي كانت إيران تكسب المعارك فيها قبل ذلك. إدارة ترمب قررت مواجهة إيران دون التورط عسكرياً مباشرة في مناطق النزاع في الشرق الأوسط. ثم توج ذلك بقراره الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي كان أكبر نكسة تمر بها إيران منذ قيام الثورة في أواخر السبعينات، بما شملها من قرارات تعيد العمل بالعقوبات الاقتصادية، ووضع اثني عشر شرطاً أميركياً صعباً للقبول بالعودة للاتفاق.
يظن روس أن ترمب يقود المنطقة نحو انفجار هائل، حروب كبيرة، ومن المحتمل فعلاً أن تعمد إيران إلى التصعيد، ورفع مستوى درجة المواجهات؛ لكنها تعرف أن الثمن عليها صار أغلى من السابق. ترمب من دون أن يطلق رصاصة واحدة أوجع النظام، قيوده سببت انهيار العملة الإيرانية، التي صارت مصدر قلاقل داخلية خطيرة على وجود النظام كله.