هى الفتنة: أخطر أسلحة الدمار الشامل، ضد الأمة العربية، طائفة طائفة، عرقا عرقا، بلدا بلدا، من المحيط إلى الخليج وبالعكس.
والفتنة أخطر أشكال الحروب الأهلية وأشدها تدميرا: إنها تدمر الأخوة ووحدة المصير، تغتال الأوطان، تقتل الدين وتنشر الفرقة وتسمم المناخ العام.
ولقد وجدت الفتنة من يشعل نارها بداية فى العراق، مع اجتياح القوات الأمريكية له، فى مثل هذه الأيام من العام 2003، حين قرر الاحتلال ــ وبقصد مقصود ــ أن يسلم الطاغية صدام حسيين إلى الشيعة، الذين كانوا قد عانوا من ظلمه وتجبره واتخذهم معبرا فى الذهاب إلى إيران ثم فى العودة منها، وبعد ذلك فى العبور إلى الكويت وعودته فى ظلال الهزيمة وانسحاق الجيش فيها.
ومع تفجر الأوضاع فى سوريا، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى وسياسية من بعد، حاولت جهات كثيرة، عربية بالأساس، ومنها تركيا أن تحولها إلى فتنة طائفية، تحت عنوان «انتفاضة السنة ضد الحكم العلوى»، خصوصا وأن إيران اندفعت تسابق روسيا على مساندة النظام، يتقدمها «حزب الله» اللبنانى.
وكان طبيعيا أن تطاول ألسنة النار لبنان بوضعه الهش، وهو الخارج من حرب أهلية ــ عربية ــ دولية امتدت لأكثر من خمسة عشر عاما وتركت جراحا غائرة فى هذا الوطن الصغير الذى تتسع مساحته الضيقة لأكثر من خمس عشرة طائفة، بعضها جاءته لاجئة من العراق ــ الفتنة (الكلدان) وبعضهم من أقباط مصر (فى الستينيات) وبعضهم من أثرياء سوريا (مسيحيين ومسلمين) بعد عمليات التأميم فى أيام دولة الوحدة.
وفى السنوات الأخيرة، تم تحويل الصراع السياسى فى اليمن إلى فتنة طائفية حين تدخلت السعودية عسكريا لمساعدة «الشوافع» من السنة، بينما اتهمت إيران بمساندة «الزيود»، بمذهبهم الذى يعتبر الأقرب إلى الشيعة.
كذلك تم تزوير طبيعة الصراع بين الحكم الملكى فى البحرين والمعارضة التى صنفت «شيعية» مع أنها كانت تضم طلائع متقدمة من شباب هذه الجزيرة التى يختلط فى شعبها السنة والشيعة بالمصاهرة وصلات الرحم وأفكار التقدم حتى لتمحى الفروق المذهبية.
***
ولطالما شهدت مصر، لاسيما عند محطات مفصلية، محاولات لإثارة الفتنة بين أبنائها الذين كانوا ابناءها على امتداد تاريخها.. ولكنها كانت دائما أقوى من الفتنة بوحدتها الوطنية التى أكدت صلابتها دائما، وها هى تجدد التزامها بموجباتها بعد تفجير الكنيستين فى طنطا والإسكندرية.. خصوصا وأنها شهدت، عبر تاريخها، موجات ومحاولات متعددة لإثارة الفتنة، وهى التى عرفت أنماطا متعددة من التدخل الاستعمارى فى شئونها الداخلية منذ حملة نابليون فى نهاية القرن الثامن عشر وحتى ثورة 23 يوليو (تموز) 1952.
وليست مبالغة أن الوطن العربى، بمختلف أقطاره، يعيش أخطر مرحلة فى تاريخه الطويل، سياسيا واجتماعيا، وأكثرها دموية، نتيجة ضرب السياسة بالفتنة وتحويل الصراع السياسى إلى مشاريع اقتتال أهلى، طائفى كما فى المشرق العربى وصولا إلى مصر، قبلية وجهوية كما فى ليبيا، وعرقية أو «قومية» ــ عرب وبربر ــ كما فى الجزائر.
لقد ضربت الحركة القومية ــ التقدمية التى احتلت المسرح السياسى مبشرة بمستقبل أفضل فى الثلاثينيات والأربعينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضى، وهى هى التى كانت العاصم من الفتنة، خصوصا وأنها قادت النضال الوطنى ضد الاستعمار الأجنبى (الفرنسى فى لبنان وسوريا، والمغرب العربى بأقطاره تونس والجزائر والمغرب، والإيطالى مع البريطانى والفرنسى فى ليبيا).
ولم تكن مصادفة أن يقود مسيحى أرثوذكسى لبنانى (أنطون سعادة) الحزب السورى القومى الاجتماعى فى لبنان وسوريا وفلسطين، وأن يبشر مسيحى أرثوذكسى سورى (ميشال عفلق) بحزب البعث العربى الاشتراكى بشعار الوحدة، ثم أن يبشر مسيحى أرثوذكسى فلسطينى (الدكتور جورج حبش) بالعروبة (حركة القوميين العرب).
وكان المسيحيون فى مصر قد شاركوا فى قيادة ثورة 1919 فى مصر، واحتل بعضهم مناصب قيادية فى حزب الوفد بقيادة سعد زغلول..
ليست هذه صفحات مقتطعة من تاريخ هذه الأرض بأهلها الذين كانوا أهلها على امتداد ماضيها وحاضرهم، وبرغم التركة الثقيلة للحقبة الاستعمارية الطويلة التى بدأت مع الحروب الصليبية واحتدت عبر السلطنة العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى ليحل محلها البريطانيون أساسا ومعهم الفرنسيون فى سوريا ولبنان.. وهى المرحلة التى شهدت التأسيس للكيان الصهيونى فى فلسطين.
وطبيعى أن تهز الضربتان الاجراميتان اللتان استهدفتا الكنيستين فى كل من مدينتى طنطا والإسكندرية الشعب المصرى، بل والعرب جميعا، خصوصا وأن ثلاثا بل أربعا من الدول العربية تعيش فى ظلال الفتنة الطائفية، بين المسلمين والمسلمين، أساسا، مع مخاطر الاستثمار فى فتنة إسلامية ــ مسيحية جديدة فى مصر.
أخطر ما فى هذا الواقع أن بعض الفتن التى تضرب المشرق العربى، من اليمن حتى سوريا، إنما تغذيها أنظمة عربية مذهبة ليس فى نهجها السياسى ما يشد الجمهور العربى لذلك تعمد إلى محاولة إثارة الفتنة، بين السنة والشيعة أساسا، كما فى العراق، أو بين السنة والعلويين، كما فى سوريا، أو بين الزيود والشوافع كما فى اليمن.'
بعض هذه الدول العربية تتواطأ مع تركيا أردوغان، الطامح إلى استعادة أمجاد سلاطين بنى عثمان، والذى يحتل عسكره بعض أنحاء الشمال العراقى بالتواطؤ مع الملا البرازانى، والذى لا يتعب من محاولة احتلال بعض المناطق فى الشمال السورى للمساومة عليها مع الروس، فضلا عن النظام فى دمشق، وبذريعة طائفية بل مذهبية فاقعة.
***
أخطر ما فى الواقع العربى أن الأنظمة قد تجرأت على شعوبها باستخدام الإقليمية أو الكيانية لتموه الطائفية والمذهبية، فتقضى بذلك ليس فقط على المشاعر الوطنية بل ولتسفه أيضا القول بالعروبة بوصفها الرابط القومى، بل المصيرى بين العرب، مشرقا ومغربا.
إن ضرب الكنيستين فى كل من طنطا والإسكندرية بمصر قد هز أمة العرب فى مشرقها والمغرب بقدر ما هزها اجتياح «داعش» لبعض أنحاء العراق وصولا إلى الموصل التى يسعى جيشها الآن لتحريرها، ولو بكلفة عالية، وكذلك بقدر ما تهزها مأساة سوريا عبر الحرب فيها وعليها والتى يحاول السفاحون تصويرها حربا طائفية، وبقدر ما تهزها ضربات التفجير التى تستهدف إثارة الفتنة فى لبنان، فضلا عن الحرب ــ الفتنة التى يديرها السعوديون ومن معهم ضد شعب اليمن تحت الشعار المذهبى.
إن المطلوب فى هذه الأقطار جميعها إثارة الفتنة الطائفية التى يمكن لنارها أن تلتهم العروبة والوطنية والدين وتحول الشعب الواحد إلى طوائف ومذاهب مقتتلة إلى يوم الدين.
إن المطلوب ضرب الهوية الجامعة لكل شعب من شعوب هذه المنطقة التى طالما وحدتها، فى ماضيها كما فى حاضرها، العروبة، بما هى رابطة جامعة تعلو على الدين من دون أن تلغيه، وتتجاوز الطائفيات والمذهبيات بما هى عودة إلى الأصل، أى إلى التاريخ والجغرافيا، إلى الحاضر بكل اشكالاته تطلعا إلى مستقبل الاستقلال الحقيقى والسيادة الفعلية بعيدا عن مناطق النفوذ الأجنبى والذى يمكن اعتبار إسرائيل العنوان الحقيقى للمستقبل الذى يراد أن «يعتقل» العرب فيه، كأسرى حرب.
إن الفتنة أخطر ما يهدد المستقبل العربى فى مختلف الأقطار التى تكاد تفقد هويتها الجامعة.'
ودور مصر أساسى فى وأد الفتنة وحماية المستقبل العربى، خصوصا وأقطار المشرق، من اليمن حتى الشاطئ اللبنانى، مرورا بالعراق وسوريا، غارقة فى دماء أبنائها تتطلع إلى مصر بوحدتها الوطنية الصلبة، لتكون الرائدة فى ضرب الفتنة وحماية النسيج الوطني ــ القومى للأرض العربية بكاملها.