بقلم - عريب الرنتاوي
تتصاعد حدة التوتر بين واشنطن والرياض على خلفية "واقعة القنصلية في إسطنبول" ... ترامب يتهدد السعودية بعقوبات قاسية (يستثني منها بالطبع صفقات السلاح) والرياض تتوعد بإجراءات مضادة، قاسية بدورها، مستندة إلى ثقلها الاقتصادي والمالي، بوصفها مورداً رئيساً للنفط، ومستورداً رئيساً للسلاح والسلع الأخرى.
ليست الأزمة الأولى في تاريخ العلاقة بين البلدين، وقد لا تكون الأخيرة ... لكن حجم المصالح المتبادلة، اقتصادياً وتجارياً، فضلاً عن "الالتقاء في مواجهة عدو مشترك"، يدفعان على الاعتقاد، بأن الجانبين لن يسمحا لعلاقتهما الثنائية بالانزلاق إلى قعر الهاوية... سيكون هناك فتور، ويكون هناك توتر، لكن لا قطع ولا قطيعة، فواشنطن ليست بوارد التخلي عن حليف إقليمي تعوّل عليه كثيراً في مجالات عدة، والرياض ليست بوارد الخروج من تحت "المظلة الاستراتيجية" للولايات المتحدة.
أطراف إقليمية ودولية تتابع عن كثب وباهتمام بالغ، كيف ستتطور العلاقات الثنائية بين البلدين ... بعضها وجد في "حادثة اختفاء الخاشقجي" فرصة لتسوية حسابات قديمة، هنا نشير بشكل خاص إلى قطر التي تكرس إعلامها لمتابعة فصول الحادثة، دقيقة بدقيقة، وليس يوماً بيوم ... أما تركيا، فيبدو واضحاً أنها تحاول توظيف الحادثة، من أجل تحقيق "اختراق" لطالما انتظرته في علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الرياض، دع عنك الموقف السعودي (ومن خلفه بعض الخليج) الداعم بقوة لأكراد العراق وسوريا، الأمر الذي طالما اعتبرته أنقرة، مسّاً بأمنها القومي.
إيران بدورها، وبرغم حالة العداء المستفحلة بينها وبين السعودية، إلا إنها تنتهج سياسة إعلامية، هدفها توسيع الفجوة بين واشنطن والرياض، ودعوة الأخيرة لفتح صفحة جديدة معها، طالما أن البلدين صاراً، أو يمكن أن يكونا، هدفاً لسلاح العقوبات الأمريكية، وإن باختلاف الدرجة والشدة بالطبع، وهو مسعى من المشكوك فيه، أن يُعطي أوكله.
من بعيد أيضاً، تترقب عواصم دولية وازنة، لحظة التأزم في العلاقة بين الرياض وواشنطن، لتقفز من فورها إلى احتلال ما تخليه الولايات المتحدة، من مساحات في السوق السعودية ... هنا، يشار إلى موسكو وبكين أساساً، اللتان لم تبديا من قبل، والأرجح أنهما لا تبديان الآن، اهتماماً كبيراً لـ "حكاية حقوق الانسان"، وهما على أتم الاستعداد لملء الفراغ الأمريكي، لكن يبدو أن "رجل الأعمال ترامب"، يقف لهما بالمرصاد، وهو أوضح بما لا يدع مجالاً للشك، بأن واشنطن لن تعاقب نفسها وستجد طرقاً أخرى لمعاقبة الرياض، أقل كلفة عليها، وأكثر قسوة على المملكة.
وفي سياقات التأزم في العلاقات الثنائية، الذي بدأ التعبير عنه يخرج إلى العلن، وبصورة رسمية، بعد أن ظل في الخفاء، وعلى ألسنة المتبرعين بالحديث نيابة عن المملكة والإدارة ... يبدو أن الأزمة الحالية، ستكون لها انعكاسات داخلية، في كلا البلدين ... الرئيس وصهره قد يفقدا بعضاَ من نفوذهما وتأثيرهما المقرر في صياغة شكل وطبيعة وأولويات العلاقة مع المملكة ... وفي السعودية، لا شك أن القيادة تواجه أهم وأخطر استحقاق، ربما منذ أحداث الحادي من سبتمبر/أيلول 2001، وستكون للأمر مفاعليه وتداعياته.
تركيا الضلع الأخير في "مثلث أزمة الخاشقجي"، نجحت في تقديم "دفعة أولى" على حساب تصحيح العلاقة مع واشنطن واستعادتها عندما قررت سياسياً، وبغطاء قضائي، الإفراج عن القس الإنجيلي أندرو برانسون، الذي عُدّ القطرة التي طفح بها كأس هذه العلاقات الثنائية ... لكن لائحة المطالب الأمريكية، لا تنتهي كما جرت العادة، فيما تتطلع أنقرة لمقابلٍ مجزٍ من واشنطن، يبدأ برفع العقوبات عن صادراتها من الصلب والألمنيوم، وإخراج البنوك التركية من لائحة الاستهداف بسلاح العقوبات، فضلاً عن إتمام صفقة منبج، وربما التخلي عن المشروع الكردي في شمال شرق الفرات، وهي مطالب وتطلعات، لا يبدو أن أحداً في واشنطن، بوارد تقديمها جميعها، أو معظمها إلى الرئيس التركي.
أما على المسار التركي السعودي، فقد كان واضحاً أن أردوغان يبقي أوراقه الرسمية قريبة من صدره، ويكتفي بترك العنان لأجهزته الأمنية والإعلامية، لتسريب ما يشاء من معلومات ووقتما يشاء، ولا شك أن التفسير الوحيد لهذه المقاربة التركية، هو حرص أنقرة، على قلب التحدي إلى فرصة، وتوظيف "حادثة الخاشقجي" من أجل تحقيق اختراقات في العلاقة مع الرياض والخليج، في لحظة تبدو في تركيا بأمس الحاجة لتسجيل مثل هذه الاختراقات.
ملف "واقعة القنصلية" لم يطو بعد، بيد أن تداعياته، تأخذ أبعاداً إقليمية ودولية، ما كانت لتخطر ببال أحد، والأرجح أنها ستتوالى فصولاً في الأيام والأسابيع القليلة القادمة، وبصورة قد تحمل معها الكثير من المفاجآت.