بقلم - عريب الرنتاوي
على نحو متزامن، صدر عن كل من موسكو ودمشق والضاحية الجنوبية لبيروت، ما يؤكد أن المعارك الكبرى في الأزمة السورية قد وضعت أوزارها، وأن ما بقي أمام الجيش من مهام، إنما يتمثل في تحصين مواقعه وإتمام المصالحات المحلية وتنظيف الجيوب المتبقية للتنظيمات الإرهاب، بدءاً بدمشق ومحيطها.
على وقع هذه الفكرة، وبوحيها، التأمت قمة بوتين – الأسد في سوتشي، في توقيت قيل إنه يأتي بعد انتهاء العمليات الكبرى، وعلى وقع النجاحات الكبرى، توطئة للعملية السياسية وعملية إعادة الإعمار اللتين يتعين استئنافهما، بدءاً من بعث “لجنة الدستور” تحت إشراف أممي، حيث يبدو الموفد الدولي ستيفان ديمستورا تواقاً للخلاص من حالة “البطالة” المضجرة التي تحيط به وبفريقه منذ زمن طويل.
هل انتهت المعارك الكبرى في سوريا حقاً؟ ... إن كان الأمر كذلك، فماذا عن الوجود الأمريكي – الكردي الكثيف في شمال شرق سوريا، والذي يجثم على مساحات تزيد على ربع مساحة سوريا، وبمشاركة نشطة من وحدات الحماية الكردية؟ ... ماذا عن الوجود التركي في شمال غرب سوريا، المحصن بعشرات ألوف المقاتلين الذين سبق للجيش السوري أن قاتلهم في دمشق ومحيطها وعدة محافظات أخرى؟ ... ماذا عن إدلب، “إمارة النصرة” والملاذ الأقوى للجولاني و”قاعدته”، فضلاً عن عشرات الفصائل المسلحة، وخزان هائل من المقاتلين المرحلين من مناطق عدة؟ ... ماذا عن الجنوب الغربي، حيث النصرة وجيش خالد وفصائل الجبهة الجنوبية وقوات العشائر وإسرائيل وغيرها، وصولاً إلى “قاعدة التنف” في الجنوب الشرقي على مقربة من المثلث الحدودي مع الأردن والعراق؟
هل عاد “الحلفاء” إلى نظرية “سوريا المفيدة”؟ ... هل ارتضوا بالتقسيم الواقعي لسوريا، أم أن ثمة “تفاهمات” ورهانات متفق عليها، على حلول سياسية لهذه المناطق، وتحديداً من ضمن مساري أستانا وسوتشي، وربما مسار جنيف إن قُدّر له أن يخرج من غرفة الإنعاش؟ ... من الذي أجرى هذه التفاهمات، ومع من، وهل قبلت بها أطراف المحور الإيراني – السوري – (حزب الله)؟
يبدو أننا نقترب من تجسيدات معادلة “التقاسم بدل التقسيم”، التي سبق وأن تحدثنا عنها في إطار الـ “de facto”، أو “حل لا تفاوضي” ينطلق من قوة الأمر الواقع، على أمل أن تتوفر ظروف التئام موائد الحوار في المستقبل للوصول إلى “حل تفاوضي”، فيصبح التقسيم القائم بقوة السلاح والمليشيات والأدوار الإقليمية والدولية، نوعاً من “تقاسم النفوذ” في إطار دستوري، من المرجح أن يقوم على شكل من أشكال “الفيدرالية” ... وهذه عملية قد تستغرق عدة أشهر، وقد تمتد لعدة سنوات، إن لم يكن أكثر من ذلك، تبعاً لاتجاهات تطور شبكة العلاقات الإقليمية والمصالح الدولية المتضاربة والمتصارعة في سوريا وحولها.
ماذا عن مستقبل الحرب على الإرهاب؟
يبدو أن عمليات “تنظيف الجيوب” ستستمر في محيط دمشق والشرق السوري، ضد داعش حصراً، أما “النصرة” التي أعاد “أستانا 9” التأكيد على ضرورة اجتثاثها، فليس من المعروف كيف ستتم هذه العملية، ولا ندري كيف نفهم عبارة “القضاء على النصرة سلماً أم حرباً”، وتحديداً، سلماً، ومن سيقوم بالقضاء عليها “حرباً”، لا في معقلها الرئيس في إدلب فحسب، بل وفي جنوب غرب سوريا، حيث تُعد التنظيم الأقوى من بين الفصائل المسلحة في “منطقة خفض التصعيد الجنوبية” هذه.
هل تبدو أطراف ما يسمى بـ “محور المقاومة والممانعة”، فضلاً عن راعيها الدولي: روسيا، متفقة على هذا التصور وتلكم الرؤية، أم أنها رؤية روسية، يجري فرضها بقوة الوجود العسكري والسياسي الروسي في الأزمة السورية على الحلفاء هذه المرة، وليس على الخصوم فقط؟ ... وهل لهذا السبب تحديداً، شرعت موسكو في دعوة كافة القوات الأجنبية – باستثناء قواتها طبعاً – للانسحاب من سوريا، بمن فيها قوات إيران وحزب الله؟ ... هل منحت دمشق موافقتها على دعوة موسكو هذه، سيما أنها جاءت بعد قمة سوتشي بين الأسد و”القيصر”؟ ... هل ستستجيب إيران، ومعها حزب الله، لهذه الدعوة، فيما التحشيد الأمريكي والتجييش الإسرائيلي ضدهما، يتصاعد يوماً إثر آخر، وبصورة تتهدد الأطراف بالانزلاق من حافة الهاوية، حيث يقفون متقابلين، إلى قعرها؟ ... هل لدى موسكو من “التفاهمات” مع أنقرة، ما يجعلها على ثقة بأن الأخيرة ستنجح في إغلاق ملف النصرة في الشمال السوري، وان عفرين وجرابلس والباب، لن تلتحق بإقليم “هاتاي”؟ ... وكيف ستتدبر روسيا أمر إقناع واشنطن بالانسحاب من سوريا، وإسرائيل برفع غطائها عن التنظيمات المسلحة في الجنوب الغربي؟
التأكيدات المتعاقبة، متعددة المصادر، عن انتهاء المعارك الكبرى في سوريا، تثير القلق ولا تدعو للاطمئنان، وتطرح أسئلة حول مستقبل وحدة سوريا وسيادتها واستقلالها، بأكثر مما توفر من الأجوبة، والأيام المقبلة، قد تكون حافلة بعمليات خلط الأوراق وإعادة بناء المحاور والتحالفات.