بقلم - عريب الرنتاوي
ثمة مطالبات تصعد وتهبط، ينادي أصحابها بـ “إعادة تعريف وظائف السلطة” بعد أن فشلت في أن تصبح “دولة”، وبعد تراكم العوامل والأسباب التي أدت انسداد أفق حل الدولتين، وثبوت فشل الرهان على المفاوضات كخيار يمكن أن يفضي بالشعب الفلسطيني إلى انتزاع حقوقه الوطنية العادلة والمشروعة... وغالباً ما يقترن الحديث عن إعادة تعريف السلطة ووظائفها، بالمطالبة بوقف التنسيق الأمني.
تزايد هذه المطالب وتكرارها، تزامن بتحذيرات تصدر بين الحين والآخر عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يلوح من خلالها بـ “حل السلطة” وتسليم مفاتيحها إلى نتنياهو .... والحقيقة أن كل من هذه المطالبات والتحذيرات، إنما تشفّان عن إحساس عميق، بانسداد مسار استمر لربع قرن تقريباً، وولج المشروع والحركة الوطنيين الفلسطينيين، عتبات مرحلة جديدة، تستلزم إعادة النظر بالسياسات والمؤسسات التي انبثقت عن المرحلة السابقة، بصرف النظر عمّا إذا كانت (التحذيرات والمطالبات)، جدية أم أنها تأتي من باب المناكفة أو “الاجتهاد”.
ونبدأ بالدعوة إلى إعادة تعريف السلطة ووظائفها، والتي غالباً ما تصدر من دون أن تكون مصحوبة بكثير ممن التوضيح والشرح والتحليل عن المقصود بالسلطة “في طبعتها الجديدة” التي تجري المطالبة بها، ولا بكثير من السرد حول ما يمكن أن يثيره التعريف الجديد للسلطة ووظائفها من ردود أفعال إسرائيلية وإقليمية ودولية، وكيف ينبغي التعامل مع كل سيناريو من سيناريوهاتها ... وإذ تلتحق أصوات إضافية للمطالبة بإعادة تعريف وظائف السلطة، فإن الأسئلة الجوهرية تظل بلا إجابات.
إسرائيلياً، الوظيفة الجوهرية للسلطة تتلخص في “التنسيق الأمني”، فإن توقف هذا الأمر، فقدت السلطة عملياً معظم إن لم نقل جميع مبررات وجودها، وسَهُل الانقضاض عليها وتدميرها، وثمة في إسرائيل من يدعو أصلاً، للقفز من فوق السلطة، وتدشين خطوط مباشرة للتعامل مع المواطنين الفلسطينين، وعودة الإدارة المدنية الاحتلالية باتت أمراً واقعاً تتعاظم أدواره بالتدريج وعلى حساب السلطة، وربما بهدف تفكيكها توطئة لدويلة البقايا والمعازل والكانتونات ... مثل هذا السيناريو لم يُعطَ حقه بعد من النقاش، ولم تدرس مختلف أوجه النفع والضرر التي ستترتب عليه فلسطينياً، فهل من مزيد، قبل استئناف تكرار المطالبة ذاتها، دون إمعان في العواقب والنتائج؟
بخلاف الرؤية الفلسطينيةالتي نظرت للسلطة كمشروع للدولة ونواة لها، فإن السلطة من منظور إسرائيلي، المدعوم من قبل أطراف دولية وازنة، والمقبول من لدن دوائر عربية متزايدة، هي “الدولة” الموعودة للشعب الفلسطيني، كل ما في الأمر، هو توسيع وظائفها قليلاً، وتسهيل حركتها في المساحة “ج” وإغراقها بمشروع السلام الاقتصادي ...بمعنى آخر، إذا كان من المفهوم أن المطالبة بإعادة تعريف وظائف السلطة، يقصد به فلسطينياً تقليص صلاحياتها، وحصرها في إطار تقديم الخدمات للمواطنين الفلسطينيين، فإن هذا المطلب يتعارض مع “الوجهة الدولية والإقليمية” التي تدعو لتوسيع وظائف السلطة، وإعطائها “مظهر الدولة”، من دون سيادة ولا تواصل جغرافي ومن دون حدود نهائية ... كيف سيجري تفكيك التناقض القائم بين هاتين الوجهتين المتعاكستين لمستقبل السلطة، ومَنْ مِنَ الفلسطينيين، سيتولى التبشير والترويج لكل منهما؟
ثم من قال أن السلطة يمكن أن تتحمل “وجودياً” قرار وقف “التنسيق الأمني” مع الاحتلال؟ ... السلطة قامت بهذا التنسيق واستمرت به، ومصيرها مرتبط بديمومته، أياً كان تعريفها الجديد وأياً كانت أشكال ومستويات وظائفها ... “الإعاقة” هنا “بنيوية”، وهي ليست اختياراً وطنياً مستقلاً ... ثم، ما الذي سيُلزم إسرائيل بإدامة أشكال التنسيق الأخرى، المدنية بخاصة، مع السلطةفي حال أوقفت الأخيرة تنسيقها الأمني معها؟ ... وكيف ستمارس السلطة أي من وظائفها الحالية والمقترحة، إن لم يكن هناك تنسيق مع إسرائيل، ألن يفضي انسداد قنوات التنسيق إلى تعطيل مختلف وظائف السلطة، بما فيها أبسطها واكثرها بداهة، بالنظر لتداخل مختلف أوجه حياة الفلسطينيين اليومية مع إسرائيل، الدولة المحتلة؟
ينسى المطالبون بإعادة تعريف السلطة ووظائفها والمطالبون بوقف التنسيق الأمني بأن إسرائيل ، هي من “منح” هذه السلطة، بعضاً من تفويضها وصلاحياتهاكسلطة احتلال، وأن النقاش حول السلطة، يجب أن ينطلق من منظور إستراتيجي أكبر وأوسع، يضع دائماً بنظر الاعتبار، إمكانية حل السلطة وتفكيكها، أما شكل الإخراج لهذا السيناريو، فمن الأجدى أن يكون على يد الإسرائيليين، وليس بقرار احتجاجي، يقوم على فكرة “تسليم المفتاح” إلى نتنياهو ... إسرائيل هي من ألحق الإعاقة بهذه السلطة، وهي من منع تحولها إلى “دولة، وعليها هي أن تتحمل وزر حلها وتفكيكها، لكن الفلسطينيين مطالبون ببلورة سيناريوهات بديلة، أو البحث عن استراتيجية جديدة لاستنهاض الحركة الوطنية واستئناف المشروع الوطني، قبل التفكير بستليم المفاتيح أو الغرق في إعادة التعريف.
لا بأس من التفكير بحل السلطة أو إعادة النظر في تعريفها وتحديد وظائفها، لكن قبل هذا وذك، يجب التفكير جدياً بأن “المقامرة” بما عُدّ منجزاً فلسطينياً، يجب أن يسبقه تفكير عميق بالبدائل والخيارات الأخرى ... والأهم، يجب أن يظهر للعالم كله، بأن إسرائيل هي المسؤولة عن هذه النهاية، حتى وإن اقتضى الأمر “استدراج” إسرائيل للقيام بذلك، حال توفر القناعة بان السلطة تتحول من ذخر للشعب الفلسطيني إلى عبء على مشروعه الوطني، على أن يكون ثمة توافق إن لم نقل إجماع وطني فلسطيني على هذه البدائل والخيارات الاستراتيجية، لأننا ما زلنا نذكر كيف جاءت ردة فعل حماس على أول تصريح لعباس عن حل السلطة وتسليم مفاتيحها، عندما عرض نائب رئيس مكتبها السياسي أنذاك، فكرة أن تتولى الحركة مسؤولية السلطة، بدل تسليمها لإسرائيل ... أنظروا كيف يقترح “المقاومون” تولي مهام، يضيق بعبئها من يسمونهم “المستسلمون” و”المفرطون”، لكن هذا ليس موضوعنا الآن.