بقلم : عريب الرنتاوي
عندما أعلنت موسكو قبل شهور عديدة، عن نهاية «المعارك الكبرى» في الحرب السورية، كان واضحاً تماماً لكل المراقبين، أن مناطق الشمال الشرقي الخاضعة لسيطرة واشنطن وحلفائها من أكراد سوريا، ومناطق الشمال الغربي الخاضعة لسيطرة الجيش التركي وحلفائه، لن تُستعاد بالوسائل العسكرية، بل عبر عمل دبلوماسي يقوم على التفاوض وبناء «التوافقات» و»التفاهمات» ... ما شهدناه مذ ذاك التصريح، من تقارب كردي – سوريا، وحوارات مباشرة وغير مباشرة بين «قسد» و»مسد» من جهة والحكومة السورية وأجهزتها الأمنية والعسكرية من جهة ثانية، يؤكد ذلك الاستنتاج.
الأكراد الذين ارتفعت سقوف توقعاتهم ورهاناتهم، بعد ان دانت لسيطرتهم ونفوذهم مناطق شاسعة من شمال سوريا وشرقها، كثيرٌ منها، من دون كثافة سكانية كردية، وبعضها من دون أكراد على الإطلاق، بدأوا رحلة التراجع والهبوط بهذه السقوف، وقد سرّعت جملة من التطورات، في استعادتهم لخطاب أكثر «واقعية» وأكثر «عقلانية» من قبل.
من هذه التطورات، الضربة الموجعة التي تعرض لها أشقاؤهم في العراق، ومن قبل حلفائهم الأمريكيين والأوروبيين، زمن الاستفتاء ... الصدمة كانت قاسية على الجميع، والدرس أبلغ من أن يطوى في غياهب الترك والنسيان ... ومنها أيضاً، ما حصل من «تواطؤ» أمريكي مع أنقرة، ومرتين متتاليتين، الأولى في «درع الفرات» والثانية في «غصن الزيتون»... لقد لدغ أكراد سوريا من الجحر الأمريكي أكثر من مرة، ومن الغباء الاستمرار في الرهان عليهم، والتعويل على وعودهم الكاذبة.
أما التطور الثالث والحاسم، فتجلى في التصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي أكد ويؤكد من خلالها، نيته الانسحاب قريباً من سوريا، وما يحيط بهذه التصريحات من أحاديث عن «تفاهمات أمريكية – روسية» في سوريا وحولها، تقوم على تسليم هذا الملف لموسكو، واستتباعاً لدمشق، وتحديداً بعد قمة هلسنكي ... هنا، يدرك كرد سوريا، أن زمن الرهانات الانفصالية الكبرى، قد انقضى، وأنه يتعين عليهم أخذ الدرس العراقي بكل حذافيره، فما يدرك كله لا يترك جُلّه، والإصرار على «استقلالية إمارة روج آفا» سيفضي لا محالة، إلى استبدال الجيش التركي بالجيش السوري، وهو خيار غير قابل للنقاش لدى الأغلبية الكردية الساحقة، ودائماً لصالح الدولة السورية.
لقد أضاع الكرد مدينة عفرين وجوارها، عندما أصروا على رفض انتشار الجيش السوري فيها... وعندما جنحوا للتنسيق والتعاون مع دمشق، كانت فوهات المدافع والدبابات التركية قد بدأت تلقي بحممها فوق رؤوسهم في المنطقة برمتها ... والمؤكد أنهم يدركون اليوم، ما عجزوا عن إدراكه بالأمس، أقله في الوقت المناسب، ولذا نراهم يطلقون التصريحات الإيجابية والمُطَمئنة لدمشق، ويرسلون الوفود الرفيعة للحوار حول صيغ الحل النهائي لمناطق سيطرتهم.
وثمة تطور رابع، لا يرغب الكرد في إثارته أو الحديث عنه والاعتراف به، ويتعلق بضيق العشائر والمواطنين العرب في مناطق سيطرتهم، من نزعات الهيمنة الكردية، بل وقيام المليشيات الكردية بعمليات ترقى إلى مستوى «التطهير العرقي» ضد العرب، الأمر الذي ولّد حراكاً عربياً شعبياً، كان يمكن أن يتطور إلى انتفاضة في وجه الأكراد (والاحتمال ما زال قائماً)، إن لم يهبط الكرد عن رأس الشجرة التي صعدوا إليها، ويتواضعوا في مطالبهم وتطلعاتهم.
على أية حال، يبدو أن «اللامركزية»، وليست الفيدرالية، هي المآل النهائي لمفاوضات الكرد مع الحكومة في دمشق، وهو أمرٌ يمكن إدراجه في سياق «رب ضارة نافعة»، فسوريا دولة كبيرة ومتنوعة، و»المركزية» كنمط في الإدارة، ليست الخيار الأمثل لتوفير الخدمات الأفضل والأكثر توازناً لشعبها بمختلف مكوناته، ثم أن سوريا، وهي تبحر نحو ضفاف الاستقرار، بحاجة للاعتراف بالهويات الثقافية والدينية والإثنية لمكوناتها المختلفة، ودائماً في إطار «وحدة سوريا وسيادتها».
أما الوضع في إدلب والشمال الغربي، فيبدو أكثر تعقيداً، وفي ظني أن مزيجٍ من الحرب والدبلوماسية، يبدو ضرورياً لغايات حسم الموقف واستعادة الدولة لسلطتها وسيطرتها على المناطق الخارجة من تحت مظلتها ... هنا، تبرز هذه المناطق بوصفها ساحات وميادين في الحرب على «الإرهاب»... وهنا حشد من الفصائل المسلحة، التي سيظل المئات والألوف من مقاتليها «بلا عمل» حتى بعد أن تجند تركيا ما تحتاجه منهم للقتال ضد أكرادها في جنوب شرق الأناضول وجبال قنديل ... وهنا، آلاف المقاتلين الأجانب، الذين لا أحد يريدهم، بمن في ذلك، بلدانهم الأصلية ... هنا، يمكن لمسار أستانا أن يكون مظلة للتفاهمات، ولرسم الخطوط الفاصلة بين الإرهاب والمعارضة... هنا وهنا بالذات، سيتعين «فرز الفصائل» وفقاً لمرجعياتها الإقليمية، الموزعة بين تركيا والسعودية وقطر والإمارات... هنا «أم المعارك»، عسكرياً ودبلوماسياً.