بقلم : عريب الرنتاوي
حماس، هي الوليدة الشرعية لجماعة الإخوان المسلمين، صاحب «العلامة التجارية» لمفهوم «التمكين»، المؤسسة أساساً على غلبة مفهوم الجماعة على مفهوم الدولة ... ما قامت به الحركة منذ الانقسام الأعمق والأخطر، وما تقوم به الآن، من «رقص منفرد» على حافة «صفقة القرن»، تحت راية «الحل الإنساني»، ليس سوى نموذجاً للمآلات الكارثية لهذه النظرية ومفاعيلها.
سلطة رام الله، استعارت من خصمها اللدود المفهوم ذاته، وربطته بالحكومة، حكومة رامى الحمد الله، فبات «تمكين» الحكومة، مبتدأ جملة السلطة وخبرها، فلا مصالحة من دون «التمكين» ولا تهدئة إن لم تفض إلى «التمكين»، ولا معالجة للملف الإنساني لغزة من دون «التمكين»... التمكين، بات كلمة السر المفتاحية لكل الملفات الفلسطينية، العالقة والمغلقة.
من مفاعيل نظرية «التمكين» الملعونة، الإصرار على الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، مهما كان الثمن ... وبعد أحد عشر عاماً من الانقسام، لم يعد خطاب حماس المجلل بـ»البراءة» يقنع أحداً ... الحركة سعت للسلطة وانقلبت عليها، وبها ربطت مشروع المقاومة، حتى صح الاعتقاد بأن أحد الأهداف الجانبية للمقاومة (وربما الرئيسة) كان ضعضعة سلطة فتح وياسر عرفات، توطئة لإطلاق مفاعيل نظرية «التمكين»، بدأ ذلك منذ أواسط تسعينات القرن الفائت، واستمر بأشكال وأدوات مختلفة حتى يومنا هذا.
المقاومة في خدمة «التمكين» ... فإن كان تقويض فتح وزعزعة نفوذ «الممثل الشرعي الوحيد»، هو الهدف الأول، جاز إطلاق الصواريخ وتنفيذ العمليات الانتحارية، طالما أن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون موجهة بالأساس ضد السلطة ومؤسساتها وأجهزتها، بوصفها «العنوان» في الضفة والقطاع في تلك الأزمنة ... وإن اقتضى البقاء في السلطة، إخماد الصواريخ، بل ووصفها بالمجرمة و»العدوة» ووقف أي شكل مقاوم، بما في ذلك المسيرات السلمية والبالونات والطائرات الورقية، لا بأس من منعها، وتحويل المقاومين إلى «حرس حدود» وإسباغ كافة النعوت القاسية، بحق من «تسوّل له نفسه» فكرة خرق التهدئة أو الهدنة.
ولأن «التمكين»، الذي هو تعبير مُلطف عن الهيمنة والتفرد والاستئثار، هو أولوية الحركة الأولى، وربما الأخيرة، فقد بدا أن الحركة مستعدة للذهاب بعيداً في التكيف مع استحقاقات مرحلة بالغة الخطورة، كأن تقبل بهدنة طويلة الأمد، قد تمتد لعقد أو أكثر، هي ما تحتاجه إسرائيل لاستكمال قضم بقية ما تبقى من القدس والضفة الغربية ... وكأن تضع أوراقها في سلة دول عربية، لم يعد يخفى على أحد، بأنها تقوم بأدوارها نيابة عن واشنطن، بل وعن تل أبيب أو بضوء أخضر منها، لتدوير الزوايا الحادة في مواقف حماس، والعمل على تكييفها، وبالتدريج، على مقاس صفقة القرن ومشتقاتها ومندرجاتها، بدءا بغزة التي باتت موضع الاهتمام الأول للولايات المتحدة وإسرائيل ... وكأن تقفل الباب في وجه احتمالات المصالحة، بل والاستعداد لتحويل الانقسام إلى «انفصال» دائم وقطيعة لا عودة فيها.
حماس تراهن على معاناة أهل غزة، وتوقهم للخلاص بأي ثمن، وهي تتوقع قبولاً شعبياً بخطواتها وتحولاتها ... وحماس تعوّل على عزلة السلطة وبؤس أدائها وشيخوخة مؤسساتها، لتُبقي على سلطتها، سلطة الأمر الواقع في غزة ... حماس تراهن على توق عواصم عربية ودولية، للتخلص من «الوضعية الشاذة» لقطاع غزة، لإعادة القضية الفلسطينية إلى أدراج الترك والنسيان، وبين يديها وحدها، ما تريده هذه العواصم، وهي مستعدة لتقديمه، طالما أنها ستحظى بفرصة إضافية لاختبار مفاعيل نظرية «التمكين» ومقتضياتها.
كل هذا يجري، وسط ضجيج لا ينقطع، عن «المقاومة والممانعة»، وإصرار لفظي لا تلين له قناة على المصالحة والوحدة، وتأكيدات جوفاء على «الثوابت»، من نوع «لا إمارة في غزة، ولا دولة فلسطينية من دونها، ومن نوع «التحرير من النهر إلى البحر، وربما حتى شواطئ قبرص وكريت»... لكأن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية يعيد نفسه، ولكن على صورة مهزلة هذه المرة، بعد أن كانت المأساة من نصيب فتح ومن صناعتها.
«لعنة التمكين» لم تصب حماس وحدها، كما أشرنا، فإصرار عباس والسلطة على «تمكين الحكومة» بوصفه شرطاً مسبقاً، ورغبته في إخضاع حماس واستعادة القطاع، دون إبداء استعدادات جدية للشراكة الحقيقة في إدارة السلطة والمنظمة والشأن الفلسطيني العام، كان من نتيجته، أو سيكون قريباً، أن مياهاً كثيرة ستجري في غزة، من وراء ظهر السلطة، ولا نقول من تحت أقدامها، فلا أقدام لها هناك، لم تكسرها حماس وتطلق النار على مفاصلها ... شروط عباس والسلطة التعجيزية، والممارسات الاستفزازية الأخيرة التي تمثلت في التعيينات داخل الحكومة والمنظمة، جميعها تشى بشيء من مفاعيل نظرية «التمكين».
سينقلب سحر التمكين على أصحابه، وربما يتحول إلى «لعنة» تطاردهم ... حماس ستفقد صورتها وموقعها كفصيل مقاوم، وستتحول إلى كائن سلطوي هجين، وستؤكل يوم أكل الثور الأبيض ... والسلطة، قد تخرج من مولد غزة بلا حمص، فلا هي استعادت القطاع ولا عادت إليها، ولا هي أقصت حماس، بل أطلقت النار على أقدامها، فأصيبت بإعاقة حركية في سنّ متأخرة، ما يجعل الشفاء منها، أمراً صعباً للغاية، حتى لا نقول مستحيلاً.