بقلم - عريب الرنتاوي
لأن النظام الرسمي العربي لا يتوافر على أي قدر من “الجدية” و”المسؤولية”، وتراوح أغلب مكوناته بين العجز والتواطؤ، فقد جاء اجتماع وزراء الخارجية العرب، لاحقاً لقرار ترامب نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ... التفكير المنطقي كان يقضي بانعقاد هذا الاجتماع قبل أخذ القرار، وبوقت ليس بالقصير، للحيلولة دون اتخاذه، بعد أن توضع الإدارة الأمريكية أمام “جردة حساب” لما يمكن أن يصدر من ردود أفعال وتداعيات، ولتتعرف مسبقاً على “كلفة” هذا القرار وقيمة “فاتورته”.
كنا جميعاً بانتظار القرار، والذين يتواصلون مع واشنطن كان يعرفون أن “شيئاً كبيراً” سيحدث ... والمسؤولون الأمريكيون لم يتركوا الأمر للصدفة أو المفاجأة ... لم نؤخذ على حين غرة، ولم يهبط القرار علينا كالصاعقة ... لكننا آثرنا أن نلوذ بصمتنا وعجزنا، وأن نقف متسمرين، بين مصدق ومكذب، وأغلبنا كان مصدقاً، فقد قالوا لنا بالفم الملآن: ترامب سينقل السفارة وسيعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
قبل القرار، كان يمكن لموقف موحد وصلب يصدر عن النظام الرسمي العربي، أن يحول دون اتخاذه، أو أن يستطيع إرجاءه إن لم نقل إلغاءه ... سيما إن اقترن الموقف العربي المشترك ببعض التهديد، وتم التلويح بعدد من الإجراءات والخطوات التي ستُتخذ إن “ركب ترامب رأسه” ومضى في مشروعه ... بعد اتخاذ القرار، انتقلنا من الحديث عن الحيلولة دون اتخاذ القرار أو عن إرجائه، إلى حديث عن “احتواء تداعياته” والتقليل من آثاره السامّة والمدمرة ... ثمة فجوة بين الحالتين والمستويين.
لكن العرب وحدهم من دون المجموعات الإقليمية، لا “نظام إقليمياً” يجمعهم، تحسبهم جميعاً بيد أن قلوبهم شتّى ... معظم بلدانهم، تراوح بين العجز أمام واشنطن أو التواطؤ معها ... من منهم غير مُمسَكٍ به بالمال والمساعدات، “ممسوك” بنقاط ضعفه الداخلية وصراعاته مع جواره .
لقد تابع ترامب باهتمام وتشجيع ظاهرين، مسلسل التطبيع المتهافت لعواصم عربية قريبة وبعيدة مع إسرائيل ... إذ حتى بعد قرار نقل السفارة، لم تخجل وفود عربية، من زيارة حائط المبكى، وتحت ستار حوار الأديان... وحوار الأديان بات بوابة جديدة للتطبيع، وغطاء “شرعياً” لسياسة التسول والتوسل ... صورهم بالأمس في باحات الحائط، مستفزة لمشاعر الفلسطينيين والعرب، المسلمين والمسيحيين، إن لم تستح فافعل ما شئت، وهؤلاء لا يخجلون ولا يرف لهم جفن ولا دماء تجري في عروقهم ... إنهم كتماثيل الشمع، تدار بالريموت كونترول، ودائما تحت غطاء كثيف من الدعوات الزائفة والمنافقة حول التسامح والحوار والتعايش، بئس التسامح إن كان غرقاً في مستنقع الذل، وبئس التعايش إن كان تحت بساطير “جيش الدفاع”، وبئس الحوار إن كان بين مهزوم ومنتصر، بين ذليل ومتغطرس.
لو كانت في النظام العربية بقية من نفس أو نبض، لما ظل هامداً إلى أن خرج علينا الرئيس الأمريكي بقراره الاستفزازي، ملوحاً ومنتشياً، ولما تجرأ على القول إن هذا القرار “يخدم عملية السلام” ... هو يعرف الأنظمة أكثر منّا، وهو مطمئن إلى ردات فعلهم في نهاية المطاف، ولا يؤخذ بالبيانات التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به ... هو يعرف أن الأمر لا يتعدى ركوب الموجة المؤقتة، وأن المياه ستعود لمجاريها قريباً، وكأن شيئاً لم يكن ... هو يعرف ذلك بلا شك، وهو لم يقارف فعلته النكراء، إلا مدفوعاً بهذه المعرفة.
لكن الأمر الذي لا يعرفه، هو أن الفلسطيني الذي سيقبل بمشروع “وصفقة القرن” لم يخلق بعد، وأن لا دولة فلسطينية من دون القدس عاصمةً لها ... وأن الكثرة الكاثرة من بيننا، تفضل خوض حرب المائة عام المقبلة، على أن تفرط بفلسطين وحقوق شعبها، وأن النصائح والتعهدات التي تلقاها من مسؤولين عرب، مقامرين وغير مجربين، سيذروها الريح.
سيدرك السيد ترامب، وإن بعد حين، أن من وعدوه بفرض الحصار على الفلسطينيين، سيجدون أنفسهم محاصرين، وأن فلسطين ستحاصرهم، وأن دماء أبنائها التي لم تتوقف عن الجريان منذ مائة عام، ستطاردهم ... فلسطين أسقطت الكثير من الأنظمة والحكومات من قبل، ودرس الأيام القليلة الفائتة، يقول: إنها ما زالت قادرة على إسقاط المزيد منهم من بعد.