شواهد الإحباط والغضب التي تجتاح الرأي العام الأردني، أكثر من أن تعد وتحصى، والمؤكد أنها ليست بحاجة لأبحاث وباحثين في الشؤون السياسية والاجتماعية والنفسية للبرهنة على وجودها أو حتى تفاقهما ... ميلٌ للعنف عند أول خلاف، مفردات وعبارات قاسية تزداد شيوعاً بين الناس ... جرأة على نقد السياسات والمؤسسات والشخصيات العمومية غير مسبوقة، ومن دون خطوط حمراء ... ضعف غير مسبوق للثقة بمؤسسات الدولة والمجتمع... حالات انتحار في تزايد، ومعدلات جريمة قد لا تكون مسبوقة ... أما عن موجات الغضب وجرعات اليأس والإحباط على شبكات التواصل الاجتماعي، فحدث ولا حرج.
قبل أيام وفي دائرة ترخيص المركبات، كدت أتعارك مع أحد المواطنين، الذي ما أن رآني حتى انهال عليّ باتهامات هي أقرب للشتائم في واقع الحال، إذ حمّلني وزر ارتفاع الأسعار وموجة الغلاء رغم معرفته بأنني لم أشعل يوماً موقعاً رسمياً أو حكومياً ... يكفيه أنني أكتب في الصحف وأظهر على شاشة التلفزيون وأتحدث للإذاعات، حتى أُصبح شريكاً ومسؤولاً عن الضائقة الاقتصادية التي تعتصر البلاد والعباد
أخطر ما في الأمر، أن معظم من يحدثك أو يتواصل معك بأي طريقة، ليس لديه بارقة أمل في فرج قريب ... جرعة القرارات الحكومية الصعبة الأخيرة، التي لم يبتلعها الأردنيون بعد، تثير لديهم أسئلة العام المقبل، وما الذي سيأتي به من قرارات وسياسات “جبائية” جديدة ... ثمة أردنيون كثر، غالبية الأردنيين، يعتقدون بأن بلادهم لا تسير في الاتجاه الصحيح، وأن السنوات العجاف لم تأت بعد.
لا أدري أن كان المسؤولون وصناع القرار على دراية كافية بما اصطلحنا على تسميته بـ “نبض الشارع” ... الأرجح أنهم يعرفون، حتى وإن أظهروا خلاف ذلك ... لكن السؤال الذي لم أجد جواباً له بعد هو: هل يعتقد هؤلاء المسؤولون بأن الوضع سيظل تحت السيطرة والتحكم وإلى متى، أو أن ثمة مخاوف تجتاحهم، مثلما تجتاحني وغيري من المراقبين، بأننا نقترب من وضعية قد لا تحمد عقباها إن ظل الحال على هذا المنوال، وأن افتقارهم للبدائل والخيارات، وربما للإرادة والدراية، هو السبب وراء ما يظهر على السطح من حالة “لا مبالاة”.
بالاستناد لتجربة السنوات الست الفائتة، نجح الأردن في تفادي “الفوضى غير البناءة” التي اجتاحت المنطقة ... لم تكن الضائقة قد اعتصرتنا إلى هذا الحد بعد، وكنا دشنّا موجة إصلاحات سياسية ودستورية “معقولة”، وأشعنا مناخات من الحرية أفضل مما كانت عليه حالنا قبل اندلاع “الربيع العربي”، وكان الأمل يحدو الأردنيين بأنهم يسيرون على طريق صاعد وإن بتدرج، نحو ضفاف الديمقراطية والحرية والنماء.
أحد الأسباب التي حالت دون سقوط الأردن في مستنقع الفوضى، يتجلى في المرونة التي أبداها النظام السياسي في التعامل مع مطالب المحتجين والمتظاهرين، والاستجابة الجزئية لبعض مطالبهم ... اليوم، تبدو الصورة مغايرة تماماً، فثمة ضيق بالحريات، حرية الرأي والتعبير والاجتماع والتنظيم، وثمة اعتماد متزايد على “القوة الخشنة” في التعامل مع “المخالف”، وتعويل أكبر على “القبضة الأمنية” في معالجة بعض الظاهرات ... هذا مؤشر “عدم ثقة بالنفس”، وهذا تطور في الاتجاه الخاطئ.
يبقى أن نشير إلى عاملين اثنين، سيكون لهما أثر حاسم في تقرير ما إذا كنا سننجح في السنوات القادمة كما نجحنا في السنوات الفائتة في حفظ الأمن والاستقرار أم لا... الأول؛ ويتمثل في شبكة الأمان الإقليمية والدولية التي تمتع بها الأردن طوال السنوات الماضية، على اعتبار أن أمنه واستقراره هما مصلحة لمعظم إن لم نقل جميع اللاعبين الكبار، إقليميين ودوليين ... هل ستستمر الحال على هذا المنوال، خصوصاً بعد إعلان نتنياهو – ترامب عن تشييع جثمان “حل الدولتين” ورفض إسرائيل المطلق والإجماعي لحل الدولة الواحدة؟ ... والثاني؛ قد تتضح ملامحه حين تضع الحرب على الإرهاب أوزراها، ونبدأ باستعادة ألوف الأردنييين، “محامي الجماعات الإسلامية يقدر أعدادهم بـ 5500 مقاتل، بالعودة إلى الأردن، مع كل ما يحمله هذا الملف الثقيل من أعباء أمنية واجتماعية وثقافية وحقوقية بالغة السوء، وهذا سيناريو غير مستبعد أن تبدأ مفاعيله بالبروز قبل نهاية العام الجاري.
من يراقب صفحات “السوشيال ميديا” يصاب بالكآبة، وتسري القشعريرة في عروقه ... لكن ذلك لا يعني انتفاء المسافة بين العوالم الافتراضية للشبكة العنكبوتية وأدواتها من جهة، والعالم الواقعي المعيش من جهة ثانية ... لدينا “طبقة” أو ربما “جيل” من “المناضلين الافتراضين” الذي تبدأ مهمته وتنتهي مع كتابة “البوست” والتعليقات على التعليقات التي يثيرها ... لكن هل لدينا حقيقة معرفة دقيقة بحجم المسافة الفعلية بين العالمين، الواقعي والافتراضي؟ ... وهل كل من يتهدد أو يتوعد على صفحات التواصل الاجتماعي، ينتمي لهذه الفئة من “المناضلين الافتراضيين” أو أن الأمر سيخرج هو الآخر عن السيطرة ويعيد انتاج تجارب أخرى، انطلقت شراراتها الأولى من “الفيسبوك” و”تويتر”؟
لست بصدد الدخول في جدل حول مبررات الحكومة لاتخاذ ما اتخذته من قرارات وإجراءات وسياسات ... وليس مهماً ما إن كانت مضطرة للجباية كما تقول، أم أنها تستسهلها كما تُتهم من خصومها ... ولست معنياً بالإجابة عن سؤال عمّا إذا كانت هذه القرارات والإجراءات ممراً إجبارياً، أم “أسهل الخيارات” ... المهم ما يعتقد الرأي العام ويؤمن به، حتى وإن كان خطأ بيّناً ... ليس المهم المجادلة حول حجم الفساد ونسبته من الاقتصاد الوطني، المهم ما يعتقد الناس ويؤمنون به، فهذا ما يحركهم أساساً ويقرر خطواتهم التالية ... الرأي العام بات يؤمن بأن سبب فقره وجوعه وبؤس معاشه، إنما يعود لسياسات فاشلة، تستهدف جيب المواطن، وهو يعزو للفساد أساساً، المسؤولية عن كل ما هو فيه وعليه من مصاعب وضوائق... وطالما أن الحكومة بأذرعها المختلفة، عاجزة عن تغيير الصورة وتبديل الـ “Perceptions”، فإن الخطر والتهديد سيبقيان ماثلين.
لو كنت في موقع الناصح للحكومة، لعملت على إنشاء “خلية أزمة” تبحث في الخيارات والبدائل، وكيفية التعاطي الاستباقي مع هذا الوضع المستجد، الذي يزيده تعقيداً بؤس الحالة في جوارنا الإقليمي، والفشل القومي على مختلف الجبهات والصعد، ولكنت اقترحت رزمة من الحلول المتكاملة، التي تبدأ بالإفراج والتفريج عن الناس، سياسياً من جهة، واقتصادياً – ما امكن من جهة ثانية – أما أن نتحوط لأثر السياسات الاقتصادية والمالية، بالمزيد من التضييق على الحقوق والحريات، فتلك وصفة مجربة، ولم تفض إلا إلى أسوأ النتائج، والعبرة في التعلم من “كيس الآخرين” قبل أن نضطر للتعلم من “كيسنا”.
المصدر : صحيفة الدستور