بقلم : عريب الرنتاوي
ثمّة هامش مسموح للأطراف الإقليمية الفاعلة، لممارسة قدرٍ من “حرية المناورة” على الأرض وفي الأجواء السورية ... يمكن لهذا الهامش أن يتسع أو يضيق، تبعاً لتقلبات الأحداث والتطورات، ويمكن لهذه الأطراف عن تخرج عن حدوده ومرتسماته، بين الحين والآخر، شريطة عدم المجازفة بإشعال أزمة كبرى في علاقاتها مع اللاعبين الدوليين الأساسيين: روسيا والولايات المتحدة.
خلال الأسبوع المنصرم، سعت تركيا في توسيع “هامش مناورتها” في شمال سوريا، ولكن بالضد من كلا اللاعبين الدوليين على حد سواء ... أحرجت واشنطن بأكثر مما أحرجت موسكو، عندما شنّ سلاحها الجوي هجمات ضد حزب العمال الكردستاني والبيشمركة العراقية (نيران صديقة) ووحدات الحماية الكردية (عن سبق الترصد والإصرار) ... موسكو صديقة لهذه الأطراف، بيد أن واشنطن حليفها الأول والأساس، وهي فرس رهان واشنطن في حربها على داعش، تحديداً في معركة الرقة.
على نحو متزامن تقريباً، كانت إسرائيل توجه ضربة صاروخية لأهداف عسكرية على مقربة من مطار دمشق ... تفادت إسرائيل استخدام الطائرات، خشية تعرضها لصواريخ أرض – جو، ولتفادي مزيد من الإحراج لصديقتها موسكو ... أما واشنطن فلم تر في الأمر كله، سوى المزيد من الشيء ذاته، فهي لا تمانع في تنفيذ ضربات من هذا النوع، بل ويمكن اعتبار الضربة الصاروخية الإسرائيلية على مقربة من مطار دمشق، امتداداً واستكمالاً للضربة الصاروخية الأمريكية على مطار الشعيرات.
الصمت الروسي على الضربات الإسرائيلية لسوريا، كان يثير في السابق تساؤلات واتهامات لدى الأطراف المحسوبة على ما يُسمى “محور المقاومة والممانعة”، التي افترضت ذات يوم، أن موسكو باتت عضواً في هذا المحور، إلى أن تظهّر الموقف الروسي أكثر من مرة، وتبدت صورة العلاقات المتينة بين موسكو وتل أبيب ... هذه المرة، انتقلت الأسئلة والتساؤلات الى المحور الآخر، الذي ومن باب التشكيك في نوايا موسكو وأهدافها، بات يتساءل عن سبب عدم تعرض القوات الجوية والفضائية الروسية المرابطة في سوريا للصواريخ والطائرات الإسرائيلية.
خلاصة القول، أن موسكو، وإن كانت تقيم أوثق العلاقات مع أركان “محور المقاومة والممانعة”، بمن في ذلك حزب الله نفسه، وترفض تصنيفه منظمة إرهابية، لا تفكر ولن تفكر في اعتبار إسرائيل دولة “عدوة”، بل ولن تجازف بالاشتباك معها أرضاً أو جوّاً ... هذه الحقيقة بات الجميع يدركها بهذا القدر أو ذاك، وإن كانت لم تستقر بعد في وعي مختلف اللاعبين المحليين والإقليميين، بل وتثير بين الحين والآخر قدراً من الحيرة والارتباك.
ومثلما تسعى موسكو في إدارة علاقاتها وصداقتها مع طرفين بينهما أشد العداوة (إيران وإسرائيل)، فإن واشنطن تواجه معضلة مشابهة تقريباً، فهي تجد صعوبة في إدارة علاقاتها بين الأتراك والأكراد، بسبب ما بينها مع عداوة، تصل حد الإلغاء أو”المعادلة الصفرية” ... واشنطن تعتمد على الأكراد أساساً، وهم حليفها الأول في الحرب على داعش، بيد أنها ليست في وارد التفريط بعلاقاتها مع دولة كبيرة مثل تركيا ... المعضلة ليست من النوع الذي يقبل التسويات على ما يبدو.
موسكو لا تخضع أبداً للابتزاز الإسرائيلي باعتبار إيران هي العدو والخطر والتهديد، وحزب الله هو الإرهاب بعينه ... لكنها في المقابل، لا تخضع لحسابات طهران ودمشق والضاحية الجنوبية، التي تضع إسرائيل في خانة الإعداء والداعمين للإرهاب ... وكذا الحال بالنسبة لواشنطن مع كل من الأتراك والأكراد، فهي لا تقبل براوية أنقرة عن وحدات الحماية، ولا تذهب في تحالفها مع الأكراد حد استعداء تركيا.
لعبة معقدة ويصعب إدارتها بتوازن طوال الوقت، وأحسب أن الإبقاء على “هامش مناورة” للحلفاء الإقليميين الكبار (في هذه الحالة تركيا وإسرائيل)، هو أحد التكتيكات التي يعتمدها اللاعبان الدوليان، من أجل تنفيس الاحتقان وإطالة أمد اللعبة ما أمكن ... تشيح واشنطن بوجهها عن ضربات الجيش التركي للأكراد في شمال العراق وشمال سوريا، وتصرف موسكو النظر عن الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية ضد أهداف للحليف السوري أو الإيراني، وفي كلتا الحالتين فإن الاكتفاء ببعض المواقف المحذرة أو البيانات المنددة، لا يغير من قواعد اللعبة في شيء.
المصدر : صحيفة الدستور