بقلم - عريب الرنتاوي
سنقطع انسياب مقالات نهايات الأسبوع، والتي نسترجع فيها بعضاً من صفحات الماضي، لنحتفي باليوم العالمي للنساء، وأبدأ بالقول إن قدراً هائلاً من النفاق والرياء يلون صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وحتى مقالات بعض الكتاب وتصريحات عدد من السياسيين، فما يقال في هذه المناسبة، لا يعكس في العديد من الأحيان، لا من قريب ولا من بعيد، المواقف الحقيقية لمجتمع ذكوري، طافح بذكوريته.
لم نكن نعرف عن يوم المرأة العالمي، برغم خلفيتنا اليسارية التي تساوي بين تحرر المجتمع وتحرر نسائه، وتضع الثاني شرطاً للأول ... وإذ صادف قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1977، اعتبار الثامن من آذار من كل عام، عيداً عالمياً للنساء، مع رحلة الخروج إلى لبنان، فقد اقترن العيد في ذهني بالتجربة اللبنانية واليسار اللبناني والحركة النسائية اللبنانية ... من يومها، ونحن نحتفي في كل عام، بهذا العيد.
لقد عرفت شيوعيين ويساريين كثرا طوال فترة «العمل تحت الأرض»، كنت أفهم أن يغلق القائد اليساري أو الشيوعي الباب دون زوجته، خشية أن تراناً وتفضح هويتنا ويتهدد بذلك أمننا وسلامنا الشخصي، ولكنني سأدرك لاحقاً، أن «طبشة الباب» كان المقصود بها، ألا نرى نحن زوجة المسؤول أو اخته أو ابنته، تماماً مثلما تجري عليه الأحوال في مختلف الأسر الأردنية المحافظة.
وأصدقكم القول، أنني وأنا الذي توزعت بين بيئتين فلاحية وبدوية، وقضيت أكثر من عقدين من عمري في مخيم الوحدات، لم أكن أجد أسرنا في تلك الأزمنة، شديدة التزمت والمحافظة، كانت ربما أكثر انفتاحاً من بعض الأسر المدنية - اليسارية ... كنا نجلس سوية رجالا ونساء، ونغني ونرقص في الأعراس، ونتبادل الزيارات من دون هذه القيود الصارمة، التي تجعل المرء يفكر طويلاً قبل أن يمد يده مصافحاً.
لكنني ما زالت أذكر زيارتي لمنزل القائد الشيوعي المرحوم رشيد شقير، وأحسب أن بيته إن لم تخني الذاكرة، كان على مقربة من جبل الحسين أو عرجان، يومها كان الرجل مسؤولاً عن خليتي الحزبية، لأجده منهمكاً في تقطيع الفاصولياء الخضراء، ويحرص على انتزاع «الخيط الجانبي الممتد» بامتداد «القرن»، كان جلياً أن الرجل حديث العهد بالزواج، وأنه متزوج من امرأة عاملة، ترك الأبواب جميعها مشرعة، وقام لإعداد ثلاثة فناجين من القهوة ... كان المشهد ملهماً، فهكذا يكون تعامل «الشيوعيين» مع زوجاتهم وإلا فلا.
لتنقلب الصورة رأساً على عقب لبعض القادة اليساريين الفلسطينيين، فمسؤول الدائرة الإيديولوجية في الجبهة الشعبية، المكلف بالإشراف على تنمية عقول الأجيال المتعاقبة من المناضلين الثوريين، والمناضلات الثوريات، كان يترك زوجته حبيسة المنزل، لا تظهر على أحد تقريباً، ولا نشاط لها يذكر من أي نوع، بما في ذلك حضور دعوات العشاء في منزلي في منطقة المهاجرين في دمشق، التي كنت أقيمها بناء على طلبه، فقد كان مغرماً بـ»الأرضي شوكي» وحبات البطاطا المحشوة باللحم والبصل والصنوبر التي تعدها زوجتي مريم، ويعد الطبق الرئيس من اختصاصها.
كنا نجتمع في مجلة الهدف، صبيحة كل ثامن من آذار، نحضر «الكيك» والعصائر وما تيسر من ورود وبطاقات حمراء، نلقي الكلمات الممجدة لنساء العالم، من ناديا كروبسكايا زوجة لينين، التي لا أثر لها في الفكر والثورة، سوى أنها كانت زوجة الزعيم الشيوعي «الخالد»، إلى أنجيلا ديفيز المناضلة الأمريكية السوداء، التي كانت تقود التظاهرات دفاعاً عن حقوق النساء والعمال، من دون أن نغفل النساء المناضلات من فلسطين وشهيدات الثورة الفلسطينية.
وبعد أن غنى مرسيل خليفة لأجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً لتبكي عليه دمعتين ووردة، ولم تنزو في ثياب الحداد، صرنا نرددها من ورائه كواجب مدرسي، مع أنني شخصياً لم أحب هذه الأغنية، وكنت في قرارة نفسي أفضل عليها أغنية «ست الحبايب» لفايزة أحمد ومحمد عبد الوهاب، ولكن من كان يجرؤ على البوح بمثل هذا «الانحراف البرجوازي».
وكنا نقرر أن نخصص صفحات واسعة من الهدف، لتمجيد المناسبة، فيطلب إلى القسم الثقافي دراسة صورة المرأة في الرواية الفلسطينية أو في أدب غسان كنفاني، أو الأدب النسوي الفلسطيني، فيما تذهب صفحات السياسة للحديث مطولاً عن قضية المرأة من منظور الفكر الماركسي اللينيني، ودور النساء في الثورة وحركات التحرر من الاستعمار ... على أننا لم نكن ننسى للحظة واحدة، أن نطلب من الرفيقات، الاعتناء بتنظيف مكان الاحتفال و»جلي الصحون والكاسات»، وإعادة المكتب إلى ما كان عليه، لنواصل أشغالنا المعتادة.
وأذكر طرفة ذاع صيتها في حينه، إذ استقبلنا زميلة صحفية في المجلة لأول مرة، وكان الهدف تخصيص عامود على صفحتها الثالثة تحت عنوان «هذا العدد»، يحكي عن أهم ما صادفناه في إعداده ... يومها كتبت مرحباً بالزميلة الجديدة في «أُسرة التحرير»، لم يبق أحد، لم يستبدل «أُسرة» بـ «أسرّة»، ليبقى السؤال الخافت عن أي سرير تتحدثون؟
ومع انتكاسة اليسار وبدء تراجعه وانكماشه، كانت مكانة المرأة لديه، تنكمش وتتراجع، صديقنا «أبو الإيديولوجيا» المغرم بالأرضي شوكي، بات إماماً لمسجد في مخيم نهر البارد، ورفاق كثر اكتشفوا أن الطريق إلى الله والهداية، يبدأ بحجب زوجاتهم وتحجيب نسائهم، لم يعد هناك حاجة لممارسة «التقية» ولا للاحتفاظ بـ»القشرة الإيديولوجية» ... تكشفت ياقاتهم الحمراء عن «بذة الراهب الأرثوذكسي» كما في عبارة للينين ذاته.
وأعجب الآن للعشرات ممن كانوا يتنافحون للحديث والكتابة والتصريح عن حقوق النساء، كيف باتوا متماهين مع مجتمع صار أكثر تشدداً ومحافظة خلال ربع القرن أو الثلاثين عاماً الفائتة ...بل أن بعضهم بات في ذيله، لكأننا حين نتحدث عن تحرر النساء، لا نجد تعارضاً بين هذا المفهوم، وكافة مظاهر الاستلاب المفروضة على نسائنا، والتي تجعل منهن، مجرد «عورات متنقلة».
نساؤنا قبل عشرين أو ثلاثين عاماً كن أفضل حالاً منهن اليوم، المجتمع بعد «موجات التطرف الوافدة إليه، بات أقل تسامحاً مع نسائه، والحركات الأصولية المتشددة، جعلت من النساء هدفاً لها، إذ كلما ألحقت بهن إعاقة أكبر، كان ذلك دليلاً على عمق تغلغلها وانتشارها.
شوارعنا وفضاءاتنا العامة باتت أقل أمناً لنسائنا وفتياتنا؛ فالتحرش الجنسي يبلغ معدلات مؤسفة، وهناك من يعتقد بأن امتلاكه لسيارة يجعله مؤهلاً للعودة بصيد وفير من النساء في الشارع، وكلما ارتفع سعر السيارة، ارتفع سقف توقعاته ورهاناته ... أما العنف ضد النساء، فتلكم حكاية أخرى.
صحيح أن المرأة في بلادنا، نالت قسطاً أوفر من التعليم، وتحظى بقسط أوفر من الرعاية الصحية، وبدأت تشق طريقها ببطء شديد إلى سوق العمل وقطاع الأعمال ... لكن للأسف، فأن النظرة للمرأة ربما تكون تراجعت بدل ان تتقدم، حتى أن ثقة النساء في إنسانيتهن، بدأ يحيطها الكثير من الشك والتشكيك.