بقلم : عريب الرنتاوي
تظهر التجربتان، اللبنانية والفلسطينية، تعذُّر، إن لم نقل استحالة، الجمع بين «السلطة» و»المقاومة» ... لكل واحدة من هاتين «المؤسستين» إن جاز التعبير، منطقها المختلف وأدواتها المغايرة ... لكل منها حساباتها واعتباراتها غير المتطابقة، حتى لا نقول «المتناقضة»، والحزب / الفصيل / الحركة، الذي يسعى في الجمع بين «الحسنيين»، سيجد نفسها مرغماً على التخلي عن إحداهما لصالح الأخرى، فيما تجارب التاريخ، القريب والبعيد، تشير إلى رجحان «السلطة» على حساب «المقاومة».
حزب الله في لبنان، وحركة حماس في حماس، تنهضان كشاهدين حيين على تعذر الجمع بين الأمرين معاً ... كل خطوة خطاها الحزب أو خطتها الحركة، على طريق الإمساك بتلابيب السلطة، والانخراط النشط في العمل البرلماني والحكومي، كانت تستدعي الابتعاد خطوتين عن الخنادق والسلاح، تلكم حقيقة، لا تقلل من شأنها الكثير من التبريرات والادعاءات، من نوع «بقاء الأيدي على الزناد»، واستمرار الاستعداد والجهوزية، والبناء المتراكم لعناصر القوة والاقتدار.
في لبنان، حقق الحزب نجاحاته الرئيسة في مقارعة الاحتلال وتحرير الجنوب (من دون قيد أو شرط)، عندما كان خارج السلطة، مبتعداً عنها ومتحرراً من قيودها ... وبلغ الحزب ذروة تألقه في العام 2006، زمن حرب تموز/آب، عندما صمد لمدة 33 يوماً، وكبّد الإسرائيليين خسائر جسيمة، على الرغم من الخسائر التي تكبدها لبنان، وتحديداً في بنيته المدنية والعمرانية، وكان الحزب في حينها، يخطو أولى خطواتها، على طريق الاندماج في الحياة السياسية المحلية، ولم يكن بعد قد توغل في دهاليزها وملفاتها الشائكة.
للحزب «نظرية» في تبرير انخراطه في عوالم السياسة الداخلية اللبنانية، أهمها أنه يريد «حماية ظهر المقاومة»، بعد أن تأكد له، أن بعض «شركائه في الوطن»، أبدى استعداداً لطعنه من الخلف، وسعى في توظيف العدوان الخارجي لتحقيق مكاسب داخلية على حسابه، وربما بالمقايضة على رأسه... ولديه من البراهين والمعطيات الدالّة على ذلك، الشيء الكثير.
بقية القصة بعد ذلك معروفة، بما في ذلك انتقال الحزب للقتال إلى جانب حلفائه في ساحات بعيدة عن ساحة الصراع الرئيسة: فلسطين، وهي «النقلة» التي أفقدت الحزب الكثير من شعبيته على الساحتين المحلية والعربية، وتحولت إلى موضع جدل لم يهدأ، ولن ينتهي قريباً، مع أن الحزب وأنصاره، يسعون في تبرير التورط في الصراعات الإقليمية، بنظرية أن «الإرهاب وإسرائيل» وجهان لعملة واحدة، وهي النظرية التي تثير من الأسئلة، أكثر مما توفر من الأجوبة.
حماس بدورها وقعت في المحظور ذاته، وربما في توقيت متزامن مع التحولات في توجه حزب الله وتركيزه على الداخل .... شاركت في انتخابات 2006 بعد أن كفّرت المشاركة في انتخابات 1996، مستندة إلى حجة حزب الله ذاتها: «حماية ظهر المقاومة» ... وذهبت إلى «الانقلاب/الحسم» بذات الذريعة التي ذهب فيها حزب الله عندما بسط سيطرته على بيروت 2007، وبتوقيت متزامن كذلك: حماية رأس المقاومة وسلاحها ... لتصبح الحركة في غزة، وبدرجة أقل الحزب في لبنان، مسؤولان عملياً عن السياسة الداخلية، و»متورطان» في حساباتها ومقتضياتها الثقيلة.
منذ 2006، لم تقع عملياً أية مقاومة جدية تذكر في لبنان ... أكثر من عقد كامل من الهدوء ... وخلال الفترة ذاتها، كانت غزة عرضة لعدوان وحشية إسرائيلية متكررة، تنتهي دائماً باتفاقات هدنة وتهدئة، تخرقها إسرائيل، وقتما تشاء، والمرة تلو الأخرى، لنعاود الكرة من جديد، ولكن بعد أن تكون طائرات إسرائيل وصواريخها قد أثخنت غزة وأهلها بجراحاتهم وعذاباتهم... دع عنك «عدوان الحصار» المدمر والمستمر، والذي لم تنفع معه كل «سرديات تحرير القطاع» من رجس الاحتلال، فالقطاع ما زال محتلاً، وإن بشكل خاص من أشكال الاحتلال.
اليوم، تبدو حماس في وضع أشد صعوبة، حتى من نظيرها اللبناني: حزب الله، ففي صدارة اهتماماتها تقع قضايا الرواتب والمعابر والخدمات والماء والكهرباء والنفط والوظائف، وهي عاجزة عن تأمين أي منها، وهي مرغمة على التزام الهدوء وحراسة التهدئة، بما في ذلك، وقف البالونات والطائرات الورقية (إلى هذا الحد)، كل ذلك تحت ضغط السلطة ومقتضيات الاستمرار على رأسها.
وحماس تجد نفسها، مضطرة للتكيف «سياسياً» مع ما تمليه السلطة من متطلبات، فهي تلتحق سياسياً بمنظمة التحرير بعد أن تعهدت «تثوير» هذه المنظمة، وهي مضطرة لتقديم التنازلات تباعاً، تارة في سياق المصالحة ومساراتها المصرية، وأخرى في سياق «حل المشكل الإنساني» وجهود نيكولاي مالادينوف، وثالثة، بـ»الرقص» على حافة المبادرات، الممهدة لـ»صفقة القرن» أو المشتقة منها وعنها ... كلفة بقاء حماس في السلطة، إن استمر الحال على هذا المنوال، لن تكون أقل من «رأس المقاومة».
أما حزب الله، فلديه هامش حركة وحرية مناورة، أوسع بكثير مما يتوفر لحماس ... ومستقبل «مقاومته» رهن بمآلات الصراع بين طهران ودمشق، فإن سلك الجانبان طريق الدبلوماسية، سيخضع الحزب لضغوط ترمي للتكيف مع المعادلة اللبنانية، وبوصفها حزباً سياسياً، وليس مقاومة مسلحة، وإن ذهبت التطورات نحو «الانفجار»، فإن مستقبل الحزب وسلاحه، ستحدده نتائج «المعركة الكبرى» بين البلدين وحلفائهما ... لكن في مطلق الأحوال، فإن السؤال عن العلاقة بين «السلطة» و»المقاومة»، سيظل قائماً، لحماس كما لحزب الله.